لماذا «صمتت» تركيا؟

فجأة، وبلا سابق انذار، لاذت انقرة بـ»الصمت» ولم تعُدْ الى همروجة الاختراق الجوي الروسي لأجوائها، بعد ان اشغلت العالم بالحكاية القديمة الجديدة، وراحت تُحذِّر موسكو من مخاطر خطوة كهذه، لا تجلب لها غير عداء حلف الاطلسي ولن تُواجَه الا بالحزم التركي الى حد التلميح بأن خيار اسقاط طائرة – او طائرات – اخرى، بات وارداً, بعد ان سرّبت انها منحت قادة القواعد الجوية والطيارين, الأذن بالتصرف وِفق المعطيات الميدانية دون الرجوع الى القيادة العامة للجيش او للمستوى السياسي لاعطاء الضوء الأخضر.


ثمة أسباب ضاغطة لجمت الاندفاعة التركية غير المُبرّرة، هذه المرة، والتي يبدو انها جاءت بعد ان شاهدت انقرة بأم عينيها وباقي اجهزتها, ما لحق بمشروعها العثماني الجديد من هزائم ميدانية ورأت ان ما كانت تعتبره جيباً «مضموناً» لها في جبل التركمان (بايرباجوق) السوري، قد انهار وبالتالي تلاشى حُلمها في استغلالها «مسمار جحا» هذا, لإيجاد مقعد لها عند اقتسام «الكعكة» السورية وخصوصاً عبر كتائب او فيلق السلطان سليم التركماني، تلك الميليشيات الارهابية التي درّْبتها وسلّحتها وكتبت جدول اعمالها، كي تُطالب ذات يوم، بالاستقلال عن سوريا والالتحاق بلواء اسكندرون, الذي اقتطعه المُستعمِرون الفرنسيون لصالحها, مقابل عدم انضمامها للمحور الالماني في الحرب الكونية.

ليس هذا وحده ما أسهم في ايقاف التصعيد التركي المُفتعل وغير الجدّي في الآن ذاته، بعد ان دفعت انقرة ثمناً باهظاً جراء حماقتها باسقاط الطائرة الروسية في الرابع والعشرين من تشرين الثاني الماضي, ورأت كيف انها لم تَجْنِ من تلك المغامرة، المحسوبة خطأ, سوى الخيبة والخسران، بل إن روسيا هذه المرة, كانت اكثر وضوحاً وحزماً في تحذير انقرة من مغبة الاقدام على خطوة كهذه وبخاصة في تأكيدها أن: «الهستيريا التي بدأها الجانب التركي, والتي نعتبرها دعاية لا أساس لها، تبدو الى حد كبير استفزازاً متعمداً».

فضلاً عن مُسارعة موسكو الى ارسال اربع طائرات متطورة وفائقة المناورة من طراز سوخوي 35.S الى قاعدة حميميم في اللاذقية لمرافقة طائراتها القاذفة, في رسالة واضحة بأن الرد سيكون فورياً وقاسياً بلا تردد.

يضاف الى ذلك, رد فعل حلف شمال الاطلسي «الفاتر» وغير المترافق هذه المرة – كما المرات السابقة – بأي تهديد تستبطنه تصريحات امينه العام الذي قال في تصريح يتيم ومُقتضَب: ان على روسيا الاحترام التام للأجواء التركية. ونقطة على آخر الكلام.

هذا الموقف الاطلسي «الكلامي» في النهاية، ينطوي هو الآخر, على رسالة لانقرة بان الهدوء مطلوب وان التصعيد على ابواب انعقاد جنيف3، لن يمنح المزيد من الاوراق لتركيا, التي بدأت تُبدي قلقا متصاعدا بعد سقوط ريف اللاذقية الشمالي واقتراب الجيش السوري من الحدود المشتركة معها. تلك الحدود التي كانت مُنفلتة ومفتوحة في الاتجاهين, بلا رقابة او ضبط (بقرار تركي بالطبع) كي يتدفق المزيد من الارهابيين والقتلة والمرتزقة الى سوريا, وكي يكونوا سُلّماً تصعد عليه تركيا, لتنفيذ مشروعها الاستعماري بنسخته العثمانية الجديدة.

تم «تنفيس» البالون الاردوغاني، الذي اخذ «هواءه» من حكاية الاجواء المُخترقة.. روسِيّاً، وفهمت انقرة ان ورقتها هذه خرجت «محروقة» وعليها ان تهدأ وتراقب، لان روسيا غير معنية بالمجاملة وهي لن تلجأ الى ما كانت اتخذته في المرة الاولى, عند اسقاط السوخوي في تشرين الثاني الماضي، بل سيكون ردها قاسيا ومتوازياً مع «الاصرار» التركي على ارتكاب الحماقة مرة اخرى، ما يعني انه لن يكون بالنسبة اليها – موسكو – استدراجا او كمينا كذلك الكمين الذي دبرته للسوخوي، بل سيكون ردا قاصما وعنيفا ودرسا يكوي وعي اردوغان ورأسه الحامية، ويُفوِّت عليه فرصة استدراج الاطلسي, لحرب لا تُعرَف نهايتها ولا اكلافها مع روسيا، ما بالك ان الاطلسي ذاته, لم يهرع لحرب معها عندما استعادت جزيرة القرم من اوكرانيا ولم يُشجّع الاخيرة على اعلان حرب ضد موسكو, وإن كان لم يُوفِر اي فرصة لتحريضها ودعوتها الى التشدد، وصَرَفَ النظر عن سلوك وارتكابات الفاشيين الاوكران الذين دبروا انقلاب اذار 2014 ضد الرئيس المُنتخب يانكوفيتش, وراحوا يُمارسون العنصرية ضد الناطقين بالروسية ويواصلون الهجمات الارهابية ضد «الدونباس» في الشرق.

هنا والآن، وبعد ان افلست انقرة ولم تعد ورقة الاختراق الروسي لاجوائها قابلة للصرف في سوق السياسة واستدراج الاطلسي، اصدر المسؤولون الاتراك الاوامر لجيشهم كي يفتح نيران مدفعيته الثقيلة ضد معسكرات الجيش السوري على الحدود المشتركة, مُطلِقاً احدى عشرة قذيفة سقط على اثرها شهيد عسكري وخمسة من الجرحى، لم تستطع انقرة نفيها بعد ان سجلتها كاميرات الجيش السوري وبعض تنظيمات المعارضة الوطنية، فلم تملك الحكومة التركية سوى اللجوء الى افتعال التفسيرات وبدت مرتبكة ومتلعثمة وفاقدة للمناورة.

في السطر الأخير، تركيا تَظهر في المشهد الاقليمي, اكثر الخاسرين وفي مُقدمة الذين بنوا اوهامهم على رمال متحركة, وليس غياب اردوغان في اميركا اللاتينية، واختفاء داود اوغلو عن رادار التصريحات الاستفزازية, سوى اشارة على ان العد التنازلي لـ «احتراق» الدور التركي في ازمات المنطقة قد «بدأ», رغم كل ما يُقال ويُسرَّب.