الكاتب القومي فهد الريماوي يكتب : اعلام الفضائيات.. تنوير ام تزوير ؟

أخبار البلد - على قاعدة التمسك الحازم بحق الحرية في التفكير والتعبير، والرفض القاطع لمنطق القمع والمنع والمصادرة لاي رأي او رؤية.. يحق لنا، نحن قدامى المحاربين الاعلاميين الذين احترفوا مهنة الصحافة والاعلام منذ اربعين عاماً، ان نتساءل من موقع الاستنكار وليس الاستفسار، عن سوية وهوية وجدية هذا الخطاب الاعلامي الغريب والعجيب المندلع من فوهات القنوات الفضائية العربية والمستعربة على مدار الساعة، والمجافي لابسط العلوم الصحفية والاعلامية، والمنافي لادنى الاخلاقيات المهنية والوظيفية.

 

من حقنا ان نتساءل، ونحن نتلقى هذا السيل العارم من العبث الاعلامي والكلامي الذي ما انزل الله به من سلطان، اين الموضوعية ؟؟ اين المسؤولية ؟؟ اين المصداقية ؟؟ اين المهنية ؟؟ بل اين شرف المهنة وادبياتها والتزاماتها وضوابطها ومحدداتها ؟؟

 

من حقنا ان نتساءل، ونحن نتجرع صباح مساء هذا العلقم الاعلامي المسموم، هل هذه الفضائيات العربية والمستعربة منابر اعلامية، ام راجمات صواريخ تضليلية؟؟ هل تنهض بشرف المعرفة والتثقيف والتنوير، ام تحفل بعار الاثارة والتهييج والتدليس والتزوير ؟؟ هل تسعى لنيل ثقة المشاهد، واحترام عقله ووعيه ورغبته في الاطلاع، ام تتوخى تعميته وتضليله وسرقة وعيه والضحك عليه ؟؟

 

عهدنا بنظريات الاعلام الاكاديمية التي درسناها منذ عشرات السنين، وبوسائل الاعلام ووكالات الانباء العريقة والمحترمة، التزامها الحازم بالبحث عن الحقيقة، والحرص على دقة المعلومة، والتمسك بصحة الخبر، وموضوعية التقرير الاخباري.. علاوة على نفورها المهني والاخلاقي من شبهة الكذب والخداع والدعاية الفجة التي تشوه اعلامية الاعلام، وتخرجه من مربع الحيدة والمصداقية الى مهاوي الدجل والغرض والتلفيق.

 

عهدنا باعلام ما قبل هذه الفضائيات المخادعة والمتسرعة، اهتمامه الشديد بثقة الجمهور به، وتثبته الكبير من مصادر اخباره، ونزوعه الدائم للتوصل الى الحقيقة وليس سواها، وامتناعه الطوعي عن نشر الضعيف والمشكوك فيه من الاخبار والاسرار.. ولنا في جريدة الاهرام المصرية، او وكالة رويتر الانجليزية خير شاهد ودليل.

 

اين رزانة ورصانة وحصافة تلك المؤسسات الاعلامية العريقة، من خفة ورعونة وطيش فضائيات هذا الزمان التي تدس السم في الدسم، وتتوخى الاثارة بدل الانارة، وتخلط الحابل بالنابل والحق بالباطل، وتسعى كل السعي لنشر الفوضى غير الخلاقة، وتعنى اشد العناية بفنون الفبركة والتجهيل والتدجيل والتمثيل المسرحي والسينمائي الذي يتطلب الكثير من سيناريوهات التمويه، وعمليات الماكياج والمونتاج والاخراج، حتى يسهل تسويقه على المشاهدين الطيبين ؟؟

 

اين المهنية والموضوعية وامانة المسؤولية في اداء هذه الفضائيات الهادرة، حين تستقبل وربما تستدرج شهود الزور، باسم شهود العيان، للادلاء هاتفياً ومن خلف الستار، بارتال المزاعم والاقوال، دون سابق معرفة باسمائهم الحقيقية، واماكن تواجدهم الفعلية، ومدى نزاهتهم واطلاعهم وصدق شهاداتهم ؟

 

كيف يمكن لهذه الفضائيات المتنافسة حد التناحر، واللاهثة خلف الاخبار الساخنة كيفما اتفق، ان تطمئن عقلاً وضميراً لشهادة >شاهد ما شفش حاجة< ولكنه اتصل بها هاتفياً، وادعى ان اسمه فلان، وزعم انه يتحدث من هذه المدينة العربية او تلك، قبل ان يستفيض في الحديث عن الدم الذي يسيل بغزارة في ميدان المواجهة بين قوى الامن الغاشمة، والمعتصمين او المتظاهرين المسالمين ؟؟

 

هل هذا اعلام محترم يستحق الوثوق به، والاطمئنان اليه، والتعويل عليه ؟؟ وهل هناك ادنى ضمانة لمصداقية هذا الشاهد المجهول، وتواجده الحقيقي في عين المكان المشار اليه ؟؟ ألم يتضح، بعد انتهاء الاضطرابات الايرانية التي وقعت العام الماضي، ان اكثر من سبعين الف رسالة الكترونية تحريضية وتضليلية وصلت الى الشباب الايراني، كانت صادرة من اسرائيل وليس من داخل ايران ؟؟

 

اما الادهى والانكى والاشد غرابة لدى هذه الفضائيات >المناضلة<، فهو دأبها على استضافة >كبار< المفكرين والمراقبين والمعلقين والمحللين والخبراء الاستراتيجيين، الذين لم نسمع من قبل قط باسمائهم او مؤلفاتهم، كي يتصدروا موائد الحوار، ويدلوا بدلائهم وبالثمين من ارائهم حول آخر الاخبار، وادق الاحداث والمستجدات، واصعب المسائل الحالية والاحتمالات المستقبلية، دون ان يرف لهم جفن، او يجف لهم حلق، او يكف لهم لسان عن الهرج والثرثرة وتطعيج الكلام.

 

>ولأن الحاجة هي ام الاختراع<، كما تقول الحكمة القديمة، فقد اضطرت هذه الراجمات الفضائية الهادرة آناء الليل واطراف النهار، الى >اختراع< جيش من هؤلاء المفكرين والمنظّرين والمحللين الذين لم نقرأ لهم يوماً جملة مفيدة، ثم فرضهم عنوة واقتداراً على جمهور المشاهدين، لا لتبصيره وتثقيفه وتفسير ما استعصى على فهمه، بل لتشويش وعيه والتغرير بعقله، من خلال منح الزيف هيئة الحقيقة، والباس الباطل لبوس الحق، واخفاء المشاريع الهدامة خلف العناوين البراقة، ورفع المصاحف على أسنة الرماح، شأن ما فعل انصار معاوية ذات تاريخ بعيد.

 

حتى من كنا نتوهمه مناضلاً فلسطينياً شجاعاً، ومفكراً قومياً شريفاً، لم يستطع الافلات من قبضة احدى الفضائيات المعروفة، او النجاة من لعنة الفبركة والفذلكة والتطبيل والتزمير، او الامتناع عن لعب دور الخياط - او الترزي - الفكري والسياسي الذي يجيد مهنة القص والحياكة والتفصيل على مقاس >المعزب< القطري، ووفق رغباته ومشاريعه وريالاته.

 

كثيرة هي المحرمات الوطنية، والمحظورات القومية التي انتهكتها بكل غلظة وفظاظة هذه الفضائيات العربية جداً، غير ان افدح واقبح هذه الانتهاكات، واشدها خطراً وضرراً قد تمثلت في التطبيع الاعلامي غير المسبوق مع المحتل الاسرائيلي، وكسر حاجز العداء النفسي والسياسي معه، واستضافة قادته السفاحين في حوارات متعددة تستهدف تبييض وجوههم وتسويقهم لدى الرأي العام العربي، تحت شعار >الرأي والرأي الآخر<، وضمن خدعة لئيمة تستهدف تقزيم الصراع العربي - الصهيوني، وتصويره على انه مجرد خلاف في الاراء ووجهات النظر بين فرقاء، وليس صراعاً تاريخياً بين اعداء.

 

وعليه.. فلا نظن ان موجة القنوات الفضائية العربية والمستعربة قدمت، على صعيد الخطاب الاعلامي، اي جديد ومفيد.. او شكلت، على صعيد الوعي الشعبي، اية اضافة نوعية يُعتد بها.. او اسهمت، في المجالين الوطني والقومي، بادنى مجهود لتعزيز الحمية الوطنية والهوية العربية والنزعة التحررية والاستقلالية.. بل لعلها قد تورطت في عكس ذلك على طول الخط.

 

ومع ايماننا الراسخ بحق الجميع في حرية الرأي والتعبير، وشجبنا المطلق لسياسات القمع والمنع والمصادرة تحت كل الظروف.. الا اننا ندعو الى الحذر مما تضخه هذه الفضائيات العاتية، والتدقيق في خطابها المجافي لابسط مبادئ الصحافة والاعلام، والتنبه الى مراميها ومقاصدها واهداف مموليها وموجهيها، سواء أكانوا من عرب النفط، أم دهاقنة الصهيونية والصليبية والماسونية.. ولا نامت اعين المرجفين !!