هل تحسّنت أحوال المصريين بعد الثورة؟

يؤكد الدستور المصري أن ثورة 25 كانون الثاني (يناير) فريدة بين الثورات الكبرى في تاريخ الإنسانية، ومع ذلك فالانقسام والاستقطاب حولها لا يزالان السمة الغالبة للنقاش العام. فريق يؤكد أنها ثورة شعبية أطاحت رأس النظام ومخطط التوريث، لكنها متعثرة أو غير مكتملة، لأن الثوار لم ينجحوا في تنظيم صفوفهم أو الاتفاق على برنامج عمل، وبالتالي فشلوا في الوصول إلى السلطة، وسلموها إلى المجلس العسكري الذي حافظ على النظام من دون حسني مبارك، ولم يبادر الى إحداث تغيير اجتماعي أو سياسي حقيقي. وهو ما فتح الطريق أمام «الإخوان المسلمين» لاختطاف ما تبقى من الثورة، ومحاولة الهيمنة على السلطة و «أخونة» المجتمع، ما دفع الشعب والقوى والأحزاب المدنية الى مناشدة الجيش التدخل وإطاحة «الإخوان». في مقابل سردية أنصار الثورة، هناك فريق ثان يرى أنها مجرد مؤامرة لتقويض الدولة المصرية، وتقسيم المجتمع، ويؤكد أن 30 حزيران (يونيو) هي الثورة الحقيقية التي أطاحت حكم «الإخوان» وحفظت للدولة وجودها وقوتها. والمفارقة الأولى، أن لخطاب الفريق الثاني حضوراً قوياً في الإعلام والبرلمان. أما المفارقة الثانية والأهم، فهي أن الحكم لا يتدخل استناداً الى الدستور لمنع خطاب اتهام 25 يناير بكونها مؤامرة، على رغم كونها أصبحت من حقائق التاريخ ومن مصادر شرعية الحكم.

 

 

على خلفية هذا الانقسام، تأتي الذكرى الخامسة للثورة غير المكتملة، والمطعون في شرعيتها، وبالتالي لا مظاهر للاحتفال بها أو لتكريم شهدائها وضحاياها. فميدان التحرير رمز الثورة مغلق، وتحرسه قوات الجيش والشرطة خوفاً من تحركات «الإخوان» ومن وقوع عمليات إرهابية. هكذا تحولت ذكرى الثورة من مناسبة للاحتفال إلى سبب للقلق والخوف من وقوع تظاهرات وأحداث شغب وعمليات إرهابية. وربما كان هناك بعض المبالغة في اتخاذ تدابير أمنية، إلا أنها تظل مفهومة ومبررة في ضوء تهديدات «الإخوان» وما جرى في تونس. أقول هناك بعض المبالغة لأن الذكرى مرَّت في هدوء باستثناء حوادث إرهابية محدودة، واعتيادية إن جاز القول.

 

 

السؤال الذي يطرح نفسه بعد خمس سنوات على الثورة المصرية: هل تحسّنت أحوال المصريين؟ أم على العكس تراجعت نتيجة سوء الأوضاع الاقتصادية وتدهور الخدمات الأساسية من تعليم وصحة وطرق ومواصلات؟ بعبارة أخرى، هل كانت أوضاع المصريين في ظل حكم مبارك أفضل؟

 

 

قبل التسرّع في تقديم الإجابة، ليسمح لي القارئ بأن أشاركه التفكير في أربعة اعتبارات أساسية قد تساعد في بلورة إجابة مقنعة وأقرب إلى الموضوعية، لأنني من أنصار مقولة: «المعاصرة حجاب». فأنا وأنت عزيزي القارئ، عشنا أحداث الثورة وتحولاتها وربما شاركنا فيها، وبالتالي قد نتخذ مواقف متحيّزة، كما أن هناك كثيراً من الحقائق والمعلومات الغائبة أو المغيّبة عنا أو التي لم يكشف عنها.

 

 

الاعتبار الأول: الخوف من اختزال عملية تقييم ثورة في مثل هذا السؤال أو غيره، لأنه قد يفتقر إلى المنطق وينطوي على مغالطات وعيوب في القياس. كما أن نتائج الثورة المصرية لم تكتمل، بدليل وجود انقسام واستقطاب حول طبيعتها وعلاقتها بتدخل الجيش في 30 يونيو. ولا شك في أن درس التاريخ في شأن الثورات الكبرى يؤكد أنها لا تؤدي مباشرة إلى تحسن اقتصادي أو استقرار سياسي واجتماعي، وقد لا تقود الى تحول ديموقراطي، بل ربما تعيد إنتاج منظومة الاستبداد والفساد في بعض الحالات. وبالتالي، قد تستقر أوضاع المجتمع ويعاود تقدمه سياسياً واقتصادياً بعد سنوات عديدة، كما حدث في الثورتين الفرنسية والروسية، وعديد من الثورات في أوروبا الشرقية وإندونيسيا والفيليبين. لكن التأثير الأهم لكثير من ثورات العالم ارتبط بتغيير ثقافة المجتمع في ما يتعلق بقيم العدل والمساواة واحترام حقوق الإنسان والثقافة الديموقراطية، فضلاً عن تشكّل قوى سياسية واجتماعية جديدة.

 

 

الاعتبار الثاني: في ضوء الاعتبار الأول، يمكن القول أن ثورة 25 يناير وموجتها الثانية في 30 يونيو أحدثتا تحولات إيجابية كثيرة في ثقافة المصريين، ووعيهم السياسي، فقد مارسوا وللمرة الأولى في التاريخ الحديث حقّهم في إطاحة الحاكم، وتغيير سياسات الحكومة، ووثقوا في قدراتهم على ممارسة هذا الحق، وظهرت قوى وأحزاب سياسية جديدة. كما تطور إدراك المصريين لأهمية العمل السياسي والمشاركة في الانتخابات وحمايتها من التزوير، فضلاً عن ضرورة احترام حقوق الانسان ودولة القانون ورفض الخلط بين الدين والدولة (المواجهة مع «الإخوان»). هذه المتغيرات الثقافية والسياسية الجديدة هي التي ستقود مصر في المستقبل، على رغم بعض التحديات والقيود الأمنية التي تفرضها واجبات محاربة الإرهاب، كما أن زوال الإرهاب سيعيد إلى تلك الثقافة الجديدة في مصر مكانتها وحضورها.

 

 

الاعتبار الثالث: من الصعب القول أن أحوال المصريين تحسنت قياساً بأوضاعهم في ظل حكم مبارك، لأننا بذلك نقيس الثابت بالمتحول، أو التاريخ بالحاضر، وهو قياس غير منطقي، فثمة تحولات سياسية معقدة رافقت مسار الثورة المصرية في السنوات الخمس وما ارتبط بها من أزمات اقتصاد وخدمات أساسية وإرهاب. وعلى رغم أن التاريخ لا يعرف الافتراضات ولا تسيره الأمنيات، إلا أنني سأفترض جدلاً أن مبارك استمر في الحكم. فمن المؤكد أنه كان سيعجز عن مواجهة انفجار مشكلات البنية الأساسية، بخاصة نقص الكهرباء، إضافة إلى تدهور أداء مؤسسات الدولة وتحديات الإرهاب، والنتائج الفوضوية للربيع العربي في سورية وليبيا واليمن.

 

 

الاعتبار الرابع: مسؤولية مبارك عن الثورة وما ارتبط بها من أزمات وصراعات، فالثورة فعل استثنائي تلجأ إليه الشعوب في حالات الضرورة، وبعد أن تفشل النخبة الحاكمة في استيعاب مطالب كل أبناء الوطن وكفالة حقوقهم في الحياة. ولا شك في أن سياسات مبارك دفعت المصريين الى الثورة عليه من دون أن تكون هناك بدائل جاهزة لخلافته. فمبارك لم يعيّن نائباً له، ولم يهتم بإعداد صف ثان. كما ضيَّق الخناق على المعارضة وحاصر المجال العام، بينما غضَّ الطرف عن انتشار «الإخوان» والسلفيين. صحيح أن الاقتصاد حقَّق نمواً بمعدل 5 في المئة في العام 2010، لكن غياب العدالة الاجتماعية والاستبداد السياسي والفساد والتزوير الفج للانتخابات أدت إلى انفجار الثورة.

 

 

لقد كان الركود أهم سمات حكم مبارك، الذي استمرّ 30 عاماً كانت الدولة تدار خلالها بمنطق تأجيل المشاكل وعدم المواجهة ومقاومة التغيير. وبالتالي، تراكمت المشاكل وانتقلت إلى الرئيس عبدالفتاح السيسي، بعد أن أضاف إليها مرسي و «الإخوان» مزيداً من المشاكل والتعقيدات. وأعتقد أن الحيوية والقدرة على الحلم هما أهم ما يميز مصر الدولة والشعب في السنوات الخمس الأخيرة، بغض النظر عن صحة أو سلامة نتائج تلك الحيوية أو واقعية الحلم والقدرة على تحقيقه. وأتصور أن الحيوية والحلم يفسران جزئياً نتائج استطلاع للرأي العام أجراه مركز «بصيرة» قبل يومين، حيث ذكر 68 في المئة من المشاركين أن أحوال مصر أفضل مما كانت عليه قبل الثورة.

 

 

الاعتبارات الأربعة السابقة تساعد في التفكير في مسار سنوات الثورة الخمس وما انتهت إليه من نتائج لا تزال قيد التشكل، في ضوء: أولاً، قدرة الحكم على هزيمة الإرهاب و «الإخوان» فكرياً وتنظيمياً. ثانياً، تحقيق توازن بين مقتضيات الأمن ومحاربة الإرهاب وبين السير قدماً على طريق التحول الديموقراطي واحترام حقوق الإنسان. ثالثاً، تحقيق إنجازات اقتصادية واجتماعية تنعكس في صورة إيجابية على حياة غالبية المصريين. رابعاً، تحقيق توازن بين مكونات وأطياف التحالف الشعبي العريض الذي دعم تحرك الجيش في 30 يونيو، والذي يتكون من حركات وأحزاب تنتمي الى ثورة 25 يناير، وشخصيات وأحزاب تنتمي الى حكم مبارك. والمفارقة، أنهما تحركا معاً ضد «الإخوان»، ثم سرعان ما نشب بينهما صراع انتهى في ما يبدو لمصلحة رجال دولة مبارك ورموزها.