المحاكمة..!

( الى عبد الله البادي/ابو المهند/ شاعر الامة الاستثنائي،المتدفق حكمة ورهافة حتى يكاد ان يكون الشاعر الوحيد الذي رسم جغرافيا الاردن شعراً،رغم ان شعره البديع الابداعي لا تحده حدود...اناشدك ان تنشدنا روائعك بعد صرت المثل الامثل للادب الرفيع )

وقف الى جانب والده المسجى على السرير.جسد ناحل مغطى بشرشف ابيض.ابتسامة مضيئة على وجهه توحي بالرضا،وعلى شفتيه المزمومتين كلام ابتلعه قبل ان يلفظ انفاسه الاخيرة،كأنه يود ان يقول: ويلكم من غضب آتٍ يا سراق الحياة.دعوات عباد الله المظلومين لن تذهب هباءً.جبهته العريضة لوحة ناطقة مثل مسلة اثرية نادرة،عثرت عليها بعثة اجنبية اثناء نبشها في تراب الوطن.خطوطها العميقة ليست مكتوبة بالرومانية او الهيروغليفية،انما بلغة عربية فصحى.عندما فكفكوا رموز تجاعيدها، وجدوا عليها عبارة منقوشة بخط الرقعة:خير للانسان ان يموت من اجل وطنه ليحميه من غيلان هذا الزمان على ان يعيش بين انذال سرقوا لقمة الاطفال. جملة حادة افزعتهم .عدلوا عن السرقة لا شرفاً فيهم بل لانها ستفضحهم في عقر ديارهم،فنبض حروفها فواحة بروحية العروبة و الاسلام،كما ان اسبقياتهم بالسرقة لم تتوقف،فقد سرقوا قبلها مسلة الملك ميشع الموآبي ؟!.

اسلم الروح وحيداً في مستشفى حكومي ناعياً العدالة الاجتماعية،باكياً الفقراء الذين يعيشون قاع سلم الرداءة مع انهم يشكلون الاكثرية المطلقة،فيما النخبة المتفردة بالامتيازات والمزايا تجلس على راس دبوس لقلتها وتتنعم بالخيرات جميعها.رعاية طبية محدودة.امكانيات ضعيفة، اجهزة قديمة عفا عليها الزمن في مراكز طبية بائسة و مستشفيات يديرها اطباء عامون جُلهم خريجو جامعات الدول الشرقية، ـ ذوات المعدلات الواطية ـ ،اما الاستشاريون،فيستدعون للحالات الطارئة، وغالباً ما يأتون بعد ان يلفظ المريض انفاسه الاخيرة. آه لو كان والدي يملك الامكانيات المالية الكافية، لذهب الى مستشفى خاص،ولو كان من ذوي النفوذ لذهب الى امريكا للعلاج على نفقة الدولة … ربما انقذوه هناك ، اما هنا فالحي يدخل على قدميه،و يخرج محمولاً على ظهره.

الميت لا يرتاح حتى في موته :" فوق موته عصة قبره " كما يقول اهلنا الشوام. كاد الابن ان يُصاب بإنهيار عصبي،عندما طلب سيارة اسعاف لنقل جثمان والده. رُفض طلبه بلا سبب، رغم تعهده بدفع الاجرة و اكرام السائق،الا ان الطبيب المقيم اصر على موقفه،لكنه تراجع لدخول واسطات على الخط . رضوخ الطبيب المتزمت جاء على اثر مكالمة هاتفية بين نائب الدائرة وجهة نافذة . تحول بعدها الطبيب من ذئب عنيد الى حمل وديع وعرض غسل الميت على نفقة المستشفىى..يا رب ما هذه الحالة المزرية، "بطلوع الروح" يحتاج الميت للرجوع الى بيته. فمن غير المعقول نقل المتوفي بتكسي اجرة،و بهمسة في اذنه تنقلب الامور. هذه حال المواطن غير المسنود بظهر.هو مثل اللافقاريات الزاحفة على الارض لا تستطيع الوقوف الا بإسناد او عربشة على ظهور الاخرين كالنباتات المتسلقة....يا الله من يسندي و امثالي.تذكر رائعة النقشبندي وراح يدندن بها : " يا إلهَ الكونِ يا سندي / انتَ يا رباهُ معتمدي / عفوك اللهم خذ بيدي !.

حضور ـ والدي رحمه الله ـ اكبر من ان اختزله بكلمات قليلة. كان جريئاً غير مهادن.حالة فريدة ومتفردة. عيناه تقدحان في الظلام مثل اسد في غابة يرى في الظلام ما لا يراه الآخرون،ويرى في النهار بعيون قلبه ، لا عيون راسه .من هنا كان على دراية بنقائص النخبة و افاعيلها المشينة التي تجري وراء حجاب. كان مصدر المه رؤية ارادات الناس مسلوبة،اروحهم محطمة،قلوبهم مكسورة،لذلك تكفل بفضح اسرار اللصوص الكبار في جلساته،و إتهام الحكومات الصورية المُغيبة عن محاسبتهم.الحكومات مجرد ادوات تنفيذية.كان دائم السؤال عن سر التراخي معهم، والطبطبة عليهم.ما يحيره اكثر خوف البرلمان منهم، رغم انهم انهم قلة قليلة يجب التضحية بهم لتعيش الاغلبية .فتكلفة السكوت عليهم باهظة جداً.عند زجهم وراء القضبان سيلتف الغلابا كلهم حول القيادة فقد اصبحت جرائمهم لا تحتمل : سرقات بالملايين،اهدار للمال العام،استغلال للوظيفة والسلطة،السطو على الاراضي. الاصل ان تُكبل اياديهم بالاغلال الفولاذية ويرموا خلف القضبان،لكنهم مازالوا يبّذرون كأنهم في دولة " بروناي" لا دولة مفلسة.نخبة لم تستح من مزاوجة الوقاحة بالسرقة وتركت الناس تغرق في الرذيلة حتى ارتفعت الجريمة الى حدودها القصوى لان الفقر مصدر الجرائم ونبع المصائب كلها.

مات والدي مرفوع الراس،موفور الكرامة. نقش اسمه في قلوب الناس لاستقامته وتفانيه في خدمتهم.ظل يتصرف بطفولة وعفوية حتى آخر لحظات عمره . اذا التقيته للمرة الاولى تود ان تحضنه لطيبته.روح طفولية كانت تسكنه لا تفارقه ،ما يدل على تمسكه بالبرآءة. الاجمل،كان في حالات الحزن يتشكل كقوس قزح بعد يوم ماطر لينشر الفرح بالوانه الجميلة على من حوله....سبق من جايلوه.عصاميته،نظافته،صوته الدافيء الرخيم كأن حنجرته صُقلت بنفحة ربانية،تذكرك بمزامير سيدنا داوود عليه السلام.حافظ على مكانه ومكانته حتى موته من دون ان يجرؤ احد على زحزحته من موقعه الاجتماعي،الطهارة الوظيفية واحدة من خصاله الحميدة.

مديره الوغد كان دائم الضغط عليه لتوريطه في صفقات مشبوهة ،وتمرير معاملات تُصّف في مرتبة الخيانة العظمى.المدير الخبيث كان يسبغ عليها صفات جذابة : هدايا، نعمة هبطت علينا من السما، رزقة الاولاد، نحن اولى بها من غيرنا،ان لن نأخذها نحن سيسرقها سوانا.محاولات استدراجه للايقاع به في شباك حبائله لم تتوقف.ظل والدي كعادته صلباً يرفض هذه اللعبة القذرة بمغرياتها المثيرة.ناهيك انه كان انموذجاً في سلوكياته الحياتية. لم يضع سيجارة بين اصابعه او يجلس مجلس نميمة، او يتقرب من مدير ليدس على اقرانه او يكتب تقريراً بزميل له ليكسب حظوة.اللغز الوحيد الذي لم يفكه احد الا بعد موته، كان المشي الى الوزارة والعودة للبيت في الصيف اللاهب والشتاء القارس على مدار العام،مدعياً ان رياضة المشي تقوي القلب،وتجلب الفرح لافراز الدماغ اثناء رياضة السير على الاقدام هرمون السعادة ـ الاندروفين ـ ،الا ان الحقيقة كانت مغايرة لهذا الادعاء.كان يمشي لتوفير اجرة السرفيس.فمسؤولياته العائلية كبيرة،وكبرياؤه يمنعه ان يمد يده لاحد او يرتشي كما يفعل زملاؤه لو قطعوا راسه.

لا ينفع حذر مع قدر.شاءت المشيئة الآلهية ان يتركنا في منتصف الطريق.انتشلنا من قاع البئر الى منتصفه، ثم ترك الحبل في المنتصف لنهوي الى قاع بلا قرار.الانسان يموت مرة واحدة. والدي مات مرات عديدة. ظل صامداً مثل حجر الزاوية. كان على دراية إن اصابه شيء فستنهار الاسرة.فتحمّل الكثير لاجلها. ظل كاظماً غيضه ،ضاغطاً على جرحه. الحق انه مات شهيداً في سبيل الدفاع عن الدولة... حارساً اميناً على اموالها السائلة،و اراضيها الاميرية.لاجل هذا الموقف جرى حصاره والتضييق عليه .نقله الوزير الى منطقة نائية لرفضه تمرير معاملة غير قانونية تخص رجل اعمال.لحس اهانته و اذعن للامر لان مستقبل اولاده يحتل راس اولوياته.كان يبرر نقله التعسفي لمن يسأله بان الموظف عبد مأمور عليه الطاعة و الا عليه الجلوس في بيته مع يقينه المطلق انه مظلوم.ولما عاد الى مقره بعد ان انهى ـ مدة نفيه ـ ،وجد ان سيدة من خارج الوزارة ترأست القسم الذي كان يديره بجدارة.لم يعترض واستعار قول خالد بن الوليد ـ انا لا اقاتل من اجل عمر بل اقاتل في سبيل الله ـ...هكذا هم الكبار المخلصون يُغَلِبّون المصلحة العامة على الخاصة،ورغم طهارتهم لم يتخلصوا من ظلم اولاد الحرام.

والدي بطل شعبي بامتياز. امتاز عن غيره بتربية اسرته تربية صالحة،وتنشئتهم ليكونوا على دراية بدينهم.زرع فيهم بذور الخير وغرس في نفوسهم شغف حب الثقافة حتى لا يكونوا كالبهائم.الشهادة لا تكفي وحدها.الشخصية بلا حصانة ثقافية ومعرفية كمن يحمل سلاحاً غير مرخص..ثبت على جبهة الفضيلة بشراسة جهادي كان يرى الجنة على مسافة طلقة .حارب الفساد وقاتل الفاسدين وحيداً بسيف مكسور،بعيداً عن فلاشات الاضواء و اقلام الصحافيين،وخطابات نفاق التكريم.جُلَّ حياته وهو يقدح زناد نور قلبه بالايمان.روّضَ نفسه الامارة بالسوء على السمو عن الصغائر،والترفع فوق الكبائر : السرقة،الرشوة ،الغيبة ،النميمة. بذل جهوداً مضنية للتحرر من امراض الاستعراض المرضي و اعراض الوجاهة الكاذبة.متبعاً سياسة احترام الذات لا تلميع احذية الكبار.انتصرت نفسه الامارة بالخير،فانتصر على ذاته، ساعياً للوصول الى مرتبة الاخلاص لله :" قال فبعزتك لاغوينهّم اجمعين * الا عبادك المخلصين". كان صوفياً بتركيبته مع عدم قناعته بالنطنطة التي يمارسها بعض الصوفيين التي تصل احياناً الى حالة التخشب،،معجباً بمدرسة الصوفي الجليل الشيخ جلال الدين الرومي القائمة على الحب. محبة البشر والحجر والشجر،الطير،كلها تسبح الله وتدور في فلكه....ايمانه يبلغ اليقين المطلق ان القلب رائد الانسان للوصول لمعرفة الله.

رغم صوفيته،اصيب بقرحة في القولون نتيجة للكبت،عندما وجد نفسه عاجزاً عن رد الظلم عن الناس.الكل يريد ان ينهب ويكسر القوانين لكنه بقي مثل رقيب السير اليقظ لا يسمح لاحد بالتجاوز او كسر الاشارة الحمراء في منطقته .كان يتسآءل ماذا تفعل حصوة في مواجهة سيل جارف ؟!.سريعاً ما ياتي الرد على نفسه من داخله: حصوة تخفف اندفاعة الماء افضل من لاشيء.المهم ان اعيش راضي الضمير لا كالآخرين الذين يمضون حياتهم في صراع مع ضمائرهم الخربة،كالمرضى الذين يصارعون مرضاً عضال.كان يبلع تعليقات الزملاء والمراجعين على شاكلة : " خايف على مال الدولة كأنه مال ابوه"، "بكرة بطلع على التقاعد وراتبه ما بطعمي ثلاثة صيصان"، " مفكر حاله عمر بن الخطاب و الا عمر بن عبد العزيز".اكثرها ايلاماً عندما دخل احد الذوات وجلس قبالته في المكتب واضعاً رجلاً على رجل،ورمى امامه دوسية طالباً توقيعه. قرأها بعناية ثم قال له معتذراً : سيدي، ما تطلبه مني من المستحيل تمريره...حتى الوزير لا يملك صلاحية التمرير،فما كان من "البيك" الا ان وقف على قدميه منتفضاً وامطره بكلمات جارحة،اشبه ما تكون بـ: ذر الملح في الجرح،نزع الاظافر، الصفع على الوجه.كلمات كأنك تقف امام مرآة بشعة،ثم صفق الباب خلفه بقوة هزت المكتب هزاً عنيفاً،وخرج مسرعاً من دون السماح له بالرد على قذارة " البيك" القذر .

عاد يومها للبيت مخطوف اللون،خافت الصوت.كان بين الفينة والفينة يتحسس صدره. من عاداته المعتادة ان يسأل والدتي الصبورة مداعباً ماذا اعدً لنا "الشيف رمزي" من اطايب الطعام؟!. هذه المرة ظل صامتاً،ولما تأخر في سؤاله بادرته هي بالسؤال : الست جائعاً ؟!. رد عليها لا، لكنني اريد كاس يانسون وحبة اسبرين،وعندما رجعت حاملة ما طلب منها،لاحظت ان جسده ينضح عرقاً غزيراً،ً رغم برودة الجو،ولسانه عاجز عن النطق. كانت وحدها.الاولاد في الجامعة،ولحسن الحظ ان جارهم في الشقة المجاورة قد عاد للتو هو الاخر من عمله ،فاستنجدت به وبمساعدة بواب العمارة المصري نقلوه الى المستشفى الحكومي. للاسف لم تشرق شمس صباح اليوم التالي على وجهه الصبوح.جلطات متلاحقة سدت منافذ القلب الطيب....والدي حكموا عليه بالاعدام. قتلوه معنوياً من دون يتركوا خلفهم بصمة واحدة تدينهم. البيك القاتل لم يستخدم سلاحه..... القتل بالكلمات لا يُجرّم القاتل.سيدعي محامي الخصم انها مجرد ملاسنة،والشهود لن يدخلوا معركة مع "البيك النافذ".ان من يرتكب اثم الشر لا يمكن ان يدافع عن فضيلة الخير...الكل اما متواطء او متورط بالجريمة.

قتلوا الاطهار الشرفاء بـ :الازاحة ،التقاعد،،العرقلة كي تخلوا الساحة لهم. انتهجوا اسوأ مكارثية عُرفية. سأل نفسه هل هناك شر اكثر من حرمان الناس من نعمة العمل،السفر،الدراسة. هم فعلوها. انا سأزف ابي شهيد الواجب، اما السفلة فمن يجرجرهم الى العدالة ؟! . كيف لبلدٍ ينخره الفساد ان يكون من دون فاسدين ؟! كيف لسرقات بالملايين دون ان تتم محاكمة فاسد ؟!. كفى عزفاً على وتر الامن و الامان .كفى استهلاكاً لمفردات النزاهة الوطنية،محاربة الفساد،الاصلاح،التطوير،التحديث،ورفع شعارات عريضة تسد عين الشمس،لاستغلالها كقنابل دخانية للتغطية على السراق اثناء الهجوم على اموال الدولة ،وعند انسحابهم بالغنائم. هل بلغت الاجهزة المعنية من الضعف ان لا ترى اغنام " النخبة" وهي ترعى في زرع الناس دون ان تهشها ام الخشية ان تصبح الدولة كالقطة التي تأكل ابناءها لان البلاء في الابناء ؟!. الم يتدبروا قول الله : " و داوود وسليمان اذ يحكمان في الحرث اذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين". قصة الغنم التي اتت على زرع شخص ذات ليل فاتلفت محاصيله،فتقاضى الرجلان الى سيدنا سليمان عليه السلام،فحكم بان ياخذ صاحب الزرع الغنم فيستفيد من انتاجها الى ان يُصلح صاحبها الزرع نظير ما افسدته اغنامه.ما يريده الشعب ان تتوقف قطعان ماشية النخب عن الرعي زرع الشعب.

آن الاوان لطرح السؤال القذيفة :هل دخلنا مرحلة الخطر،وبلغنا نقطة اللا عودة؟!. ام اننا بخير،وهناك بصيص امل وفائدة تُرجى ؟!.الحق اقول،لا لسنا بالف خير الا في حالة اسئصال الخُراج المتقيح المتمثل بالنخبة الفاسدة،ومحاكمتها من لدن محكمة شعبية محايدة عادلة، بعد ان فشلت الحكومات المتعاقبة جميعها بالتواطؤ مع مجلس النواب من تطبيق قانون من اين لك هذا،وتقديم الفاسدين قرابين على مذبح الطهارة الوطنية.
مدونة /بسام الياسين