الاصلاح التربوي يذهب إلى المعلمة والمعلم يا معالي الوزير!

من المؤكّد أنّه ليس إصلاحاً تربوياً ذلك الذي يقول مدّعيه إنّه غيّر الكتب المدرسيّة (ويكون في الحقيقة قد أتى بأسوأ منها)، وشكّل لجاناً ومجالس وأتى بخبراء.. فالإصلاح التربوي الحقيقيّ، لا الشكليّ، يبدأ عملياً من الهيئات التدريسيّة، أي من إعادة تأهيل المعلمات والمعلّمين. وإعادة التأهيل ينطلق، كما ذكرنا من قبل، من الرؤيا التربوية (أستاذايَ نهاد الموسى وحسني عايش يعترضان، ويريدانها "رؤية" وأنا لا أرد). وهذه الرؤيا التي تعبِّرُ عن بصيرة أهل الإصلاح وعميق نظرتهم إلى مأزق التربية والتعليم وحلوله الإبداعيّة، هي التي تُترجم إلى فلسفة وبرامج لتأهيل السلك التعليميّ بما يضمن استيعابه للمأزق وللحلول، من خلال أعمدة أربعة يُقام عليها بناء التربية والتعليم كلّه:

الأول: العقل وتفعيلُه واحترامه إلى الدرجة القصوى. فمن دون إيمانٍ عمليّ من المعلمات والمعلمين بقيمة العقل في مواجهة المشكلات وحلّها، وتأمين جميع الظروف للطلبة لاستعماله، لن يكون هناك إصلاح، بل كذبة إصلاح. فالعقل بمثابة الضوء والشمس للنبات والإنسان. ولذا سيكون للمعلمة والمعلم موقفٌ واضحٌ من تغييب العقل بالشعارات التي تبعد عن استخدام العقل والتدبير.

والثاني: الحريّة في التفكير، التي بدورها تخلق فرصاً للإبداع في تغيير الواقع، ومن دون اتخاذ الحريّة منبراً ووسيلة لتربية سليمة وعفيّة، لن يتمكن المعلمون والمعلمات من إنجاز أي تطويرٍ يُذكر في بنية التعليم. إن السؤال مفتاح العلم، ومن دونه ليس الأمر إلا حفظاً وتلقيناً. فالحرية في التعليم بمثابة الأكسجين للكائن الحيّ.

والعمود الثالث هو التوازن الوجداني القائم على تلبية حاجات النفس البشريّة إلى المحبة والاحترام والتقدير والتنفيس عن الغضب وممارسة الهواية والشغف بالفنون والسيطرة على الحزن والتعبير عن الذات... وهذه جميعها وغيرها تحدد ما يستطيع المعلم والمعلمة تقديمه إلى الطلبة من فرص لإطلاق المشاعر وتدريبها، وليس منها بطبيعة الحال التخويف من العقاب، ولا التهديد به. فقد أصبحت موضةً ساريةً كالوباء في مدارس الحضانة والتمهيديّ والصفوف الأولى والمرحلة الابتدائية أن تحشو المعلمةُ والمعلمُ رؤوسَ الأطفال بعبارات ضخمة في دلالاتها، مخيفةٍ في خواتيمها! إذ يبدو أن هؤلاء المعلمات لم يتعرّضنَ لأيِّ تأهيلٍ تربويّ، وأنَّ كل ما تلقينه فإنما عن واعظاتٍ مؤدلجاتٍ أو دعاةٍ عتاةٍ في فقه الرعب والتخويف، لإنشاء أجيالٍ على الطاعة والتنفيذ وعدم المساءلة. فالتوازن الوجداني بمثابة الماء لكائنات الله.

والعمود الرابع هو المعارف الحديثة بالواقع الحديث، فليس الماضي بمقدس، ولن يمكن تكراره.. وكل ما تهيمُ به من تلميعٍ للماضي وحصر الوجود الراهن بين دفاته المهترئة، ليس إلا من قبيل العنت وقصر البصر، فالماضي لا يعدو أن يكون درساً فحسب. إن معارف العصر وحلول مشكلاته بمثابة سمادٍ لأرضٍ جائعة.

إن لم تعلن وزارة التربية أنها بصدد عملية قلبٍ جذريٍّ لتربة التأهيل التربويّ للمعلمات والمعلمين فيدخلها الضوء والأكسجين والماء والغذاء، فإن إلغاء كتاب "الثقافة العامة" الذي أُعلِن عنه مؤخّراً، ليس سوى تخدير وكسبٍ للوقت.

أرجو أن لا نفقد الأمل...