نريدها دولة مدنية.. لا كلمات في كلمات

في كل مناسبة، تشبعنا الحكومة كلاما وتنظيرا عن أهمية الدولة المدنية الحضارية الجامعة، التي تقوم على أساس القانون والدستور، واحترام حقوق الإنسان، والرأي والرأي الآخر، وتعزيز مفاهيم الديمقراطية وحقوق المرأة والطفل وذوي الإعاقة وغيرهم من فئات المجتمع.

وتتسيد الحكومة ووزراء ومديرون، ومسؤولون ومحافظون المنابر، ليحدثونا عن الدولة المدنية وتعزيز مفهومها، بحيث يكون الجميع بلا استثناء تحت سقف القانون.

في التنظير تجيد حكوماتنا، مجتمعة ومنفردة، الكلام، وتسمعنا من منبر القول والخطابة كلاما ليس كأي كلام، فتعيدنا إلى أجواء قصيدة نزار قباني، التي غنتها الكبيرة ماجدة الرومي: "يسمعني حين يراقصني كلمات ليست كالكلمات".

تطبق حكومتنا علينا، نحن الشعب، ما جاء في كلمات الأغنية، وعلينا أن نسمع ونصدق ما تقوله، وهي تردد على مسامعنا كلماتها الجميلة الحالمة، وعلينا أن نطير معها إلى أبعد نجمات، فنحلق عاليا كالريشة بين النسمات، ونتفاعل معها وهي تهدينا شمسا وقمرا وأمنيات وسوسنات.

علينا أن نسرح فيما تقول حكومتنا، من دون أن يكون لنا حق القول أو التعليق، ونعيش لحظات هيام في كلامها، وعلينا تركها تقول لنا ما تريد، فيما تفعل بنا ما تريد، فلا يجوز لنا أن نسأل، فحكومتنا من حقها أن تحدثنا عن الدولة المدنية العصرية، التي أساسها القانون والحريات، وفي التطبيق، من حقها أن تشارك في واقعة صلح عشائري، وتوقع وثيقة جلوة عشائرية! فهي الحكومة ومن حقها أن تفعل ما تريد، من دون أن يكون لنا حق معرفة على أي جنب تريدنا أن ننام، على جنب الدولة المدنية أم الدولة العشائرية، على جنب القانون والدستور، أم جنب الأعراف والتقاليد، على جنب حق الدولة وسيادتها وحق القضاء واستقلاله، أم على جنب آخر لا نعرفه حتى اليوم!

كلنا يعي ويعرف أن القتل مدان قانونيا ودستوريا وإنسانيا، والقانون والقضاء لهما كل الحق في الفصل في كل ما يتعلق بأي جريمة، منظورة أمام القضاء، وليس من حق أحد أن يتدخل في سير عمل القضاء، حتى لو كان من بين أعضاء الحكومة أو غيرها.

يبدو أننا بحاجة لسنوات، أرجو أن لا تكون سنوات شمسية، حتى نؤمن إيمانا حقيقيا بالدولة المدنية، في حياتنا اليومية، ونفعل مفاهيمها حقا، فالدولة المدنية لا تبنى من خلال كلمات تقال من على المنابر، وإنما من خلال أفعال وممارسات تؤسس لها، ونعزز حضورها، وإرادة صادقة تدفع بها للإمام.

أعتقد أن حكومتنا مطالبة بتفسير حقيقي وواقعي، وليس تفسيرا استدراكيا دفاعيا هجوميا حول موقفها من الدولة المدنية ومدى انسجامها بشكل واضح مع الرؤية، التي تؤسس لتلك الدولة، ومدى تنفيذها لها، وتفسير واضح لما رأيناه وشاهدناه خلال الأسبوعين الماضيين، من مشاركة أحد أعضائها في جاهة عشائرية، وعليها أن لا تقول أن المشاركة شخصية، وأن لا علاقة للحكومة بها، فهنا لا يستوى الشخصي مع العام.

أشعر أن كل كلمات حكومتنا حول مدنية الدولة مجرد كلمات، خاصة بعد تلك الواقعة، حيث يتبين أن ما تحدثنا به الحكومة، ليل نهار، حول القانون وتنفيذه والدولة المدنية، كلمات تذروها الرياح.

أشارك كل من يضع يده على قلبه، خوفا من ضياع مستقبل جيلنا المقبل، الذي وعدناه بتطوير مناهجنا وأفكارنا ورؤيتنا، وخاصة عندما نرى أننا نتراجع باتجاه الأفكار العشائرية، بدلا من استحضار فكر الدولة الحضارية المدنية التي تؤمن بالعدالة والمساواة وبالقانون والنظام.

الواضح أن حكوماتنا تطبق علينا كلمات أغنية ماجدة الرومي بحذافيرها، فهي تراقصنا، فتسمعنا، من على المنابر، كلمات حول الدولة المدنية، وفي النهاية نعود لطاولتنا، ولا شيء معنا سوى كلمات!