«العلمانية» ليست كُفراً بالمطلق!

تُختطفُ بعض المصطلحات عن مضامينها الحقيقية، وتوصمُ من قبل الكثيرين بوصمات قبيحة بالمطلق! من هذه المصطلحات مصطلح «العلمانية». فما اكثر من يسيئون استعمالها إن في الخطاب الديني او السياسي. ثمة مواقف «حدية» تجاهها! فانت «علماني» –اذن في عرفهم- انت كافر وملحد! من قال هذا؟

ما احوجنا اليوم اكثر من اي وقت مضى الى محاكمة علاقة الديني بالدنيوي محاكمةً صحيحة بعيداً عن «التزمّت» او «التحزّب». الأديان –جميع الاديان- وسعت الديني المقدس كما وسعت الدنيوي المعيش! لا يجوز «التكفير» لمن لا ينكر وجود الله –سبحانه-، كلمة «كافر» غير مسموح باطلاقها عشوائياً وبخاصة من قبل بعض ائمة المساجد والفقهاء. و»التكفير» شهدناه منذ عصور قديمة. اما المكفرون فكانوا أو كان بعضهم من المقربين للحكام المستبدين الذين يريدون من يبرر استبدادهم!

قُلتُ «العلمانية» مصطلح حداثي لا يجوز وصمه بالمعادة للدين، واخص «الاسلام» ديننا الاسلامي احتفى بِ»العقل» وفرق بين من «يعلمون» ومن «لا يعلمون».

من هنا علينا ان نفسح المجال للفكر النقدي الذي يحاكم رؤية عقائدية لا تتطابق ومقتضيات الحاضر والمستقبل.
إن قراءة مفهوم «العلمانية» في ضوء الصيرورة التاريخية المعاصرة ومتطلبات الحياة الدنيوية ضرورة الضرورات التي ينبغي ان يعيها ائمة المساجد في بلداننا العربية والاسلامية، «العلمانية» فضاء انساني ومعرفي تخدم طموحاتنا الانسانية.

لا يجوز «اختطاف» المساجد من قبل بعض الائمة والمشايخ غير المستنيرين او الذين يخدمون اجندة سياسية معينة، فيها من الانغلاق ما فيها، نحن بحاجة الى ترسيخ فهم جديد لِ»العلمانية» وتوظيفه على نحو رشيد وعقلاني ان في خطابنا الديني او السياسي. دون ذلك سنظل ندور في حلقة مفرغة، وستظل «العلمانية» «فزاعة» تُشنُّ عليها الحرب الكلامية دون تروٍّ او عقلانية!

دعونا - يا قوم - نُرسي اسساً واضحة لِ»الحوار»، فليس بالضرورة ان يكون صاحب الرأي المختلف عن رأينا مُعادياً، يجب قمعه! اختلف في الرأي معك، لكن لا اقمعك!

الإسلام وكل أديان السماء دعت الى «التسامح» والانفتاح على الآخر. وعليه فالتشنج عند محاورة الآخر يدل على قصر نظر وضيق أفق، وَحَدّية مقيتة.

في كتابه «التفكير في العلمانية» يدعو المفكر أ.د. كمال عبد اللطيف الى ضرورة تبني تفكير فلسفي في مفهوم «العلمانية» «يستطيع في ضوء ملابسات التاريخ والنظر العربيين ان يغيّر محتوى الفهوم فيحوله الى مفهوم عام، وذلك باعادة التفكير في «ازواج» المفاهيم الموجهة والمجددة لبنيته من قبيل، حق ديني، حق وضعي، العقل، الوحي، العقلي، المتخيل السياسي- الديني» الكتاب ص 60.

وفي رأيه ان تفكيكنا وقراءتنا هذه الازواج المفهومية يتيح لنا الفرصة لإغناء مفهوم «العلمانية» وتطويره.

وفي تصوّري ان عدم فصل السلطة السياسية عن السلطة الدينية، سيفاقم من الازمة التي نعيشها كعرب ومسلمين.

دون هذا الفصل لن تكون هناك «ديمقراطية» في مجتمعاتنا، لأن الديمقراطية لا تكون حقيقية حين يتم رفض الطرف الآخر او التحريض عليه!

في كتابه ايضاً يفضح هذا المفكر المغربي «عَوار» بعض التصورات السياسية اللاهوتية التي تراوغ وهي تقارب «الديمقراطية» ستبقى هذه «المراوغة» سائدة عربياً واسلامياً ما دام «الفكر النقدي» مُحارباً من قبل السلطة السياسية.

وبصراحة اقول ان الامبريالية العالمية تحرِّض هذه السلطات السياسية في كثير من مجتمعاتنا على مناهضة وقمع هذا الفكر. إن «التزمت» الديني هو الذي افرغ مضمون «العلمانية» –كما أرى- من اي بُعد انساني، فباتت المساجد تُختطف من قبل بعض الائمة والمشايخ –ولا اقول كلهم- بدعوى انقاذ العباد من شرور «العلمانية».! غُلُوٌّ ما بعده غُلُوّ!

وفي رده على من يهاجمون «العلمانية» لانها نشأت اول ما نشأت في بيئة غربية مخالفة لتاريخنا، يقول د. كمال عبد اللطيف «إن الانتاج الفكري الانساني، يتضمن في روحه الجمع بين الخاص والعام، بين المحلي والانساني» ص 116.

وهذا منطق سليم، فثمة «مشترك انساني» بين جميع الحضارات والثقافات لا يجوز تجاهله والقفز عنه! وحتى نصل الى هذا الشأن الانساني لا بد من احداث «ثورة» في المناهج التعليمية، بمعنى أن تلائم هذه المناهج روح العصر ومقتضيات المجتمع المدني.

إن عملية تصويب المفاهيم تتطلب فكراً نقدياً، لم يستوعب ضرورته –مع الاسف- الكثيرون من معلمي المدارس والوعاظ والفقهاء، فما زالوا على عداوة غير مبررة مع هذا الفكر يصبون جام غضبهم عليه، وكأنه نبت شيطاني لا اجتهاد انساني!

يؤسفني ان اقول ان مدارسنا وجامعاتنا لا تخرج اليوم مبدعين حقيقيين، لان شروط الابداع لم يتعلموها في مدارسهم وجامعاتهم، حتى من يعظون في المساجد العربية الكثيرون منهم على خصومة شديدة مع اي فكر متحرر مستنير.


لن تقوم لنا قائمة ما دام هذا الواقع الشاذ سائداً في مجتمعاتنا. ما دامت رسالة الدين الحقيقية مُهمشة. وفي تصوري ان لوزارة الأوقاف الاسلامية دوراً هاماً يجب ان تلعبه في هذا الظرف العصيب الذي نعيشه.