إفشال الآخرين ليس وصفة للنجاح..!

تغص الصحافة العالمية هذه الأيام بالتقارير عن أزمة الدول العربية الغنية بسبب انهيار أسعار النفط، والتورط في الحروب. وفي الحقيقة، حذر كثيرون منذ أوقات مبكرة، من مغبة فرط الاعتماد على الاقتصادات الريعية والسياسات غير التكاملية، وتغليب منطق الانفصال على التشارك. وفي المنطقة العربية، تحدث المراقبون والمواطنون دائماً عن التعاون والتكامل الاقتصادي والسياسي في المنطقة العربية، كضرورة عملية، في ضوء ميل بقية العالم إلى تكوين التكتلات لضمان المصالح.

لكن الذي غلب في منطقتنا على صعيد السياسة والاقتصاد -وحتى الثقافة الشعبية- هو الاعتقاد بأن حماية الذات وإغناءها يتحققان فقط بإفقار الآخرين وإضعافهم. وتجسد ذلك على كل مستوى تقريباً، من الأفراد إلى المجتمعات، إلى الأنظمة والإقليم. وكانت النتيجة هي ما نراه الآن من تضرُّر الجميع، وامتلاء المنطقة بالعدوانية على كل صعيد.

على مستوى الأفراد الذين تعلموا أن المنافسة تعني الإقصاء أكثر من التعاون، يندر أن ينخرط الناس في النشاطات التطوعية أو يتقاسموا خبراتهم مع مواطنيهم، مقارنة بالمشاحنات والمشاجرات -وحتى الحروب الأهلية. وكمثال قريب، يتذكر معظمنا ممن ارتادوا الجامعات، كيف يميل المتفوقون إلى كتمان معرفتهم عن الزملاء، ويضيقون بالمساعدة في توضيح فكرة أو الإجابة عن سؤال، مع أنه ليس هناك ضرر أساسي في تحصيل الجميع علامات جيدة. وفي بيئات العمل، تغلب نزعات الشك والفردانية وغياب التضامن بين العاملين، فتضيع الحقوق. وفي أغلب الأحيان، تنقلب النخب على مبادئها وخطاباتها المثالية وتغير انحيازاتها بمجرد تغير مواقعها.

والعقل الإداري، من المؤسسات إلى الدول، يرى فائدة في تغليب الـ"أنا"نية بين المرؤوسين والمواطنين على التكامل والتعاون أيضاً، لغاية إحكام القبضة وخوفاً من الاجتماع. ومع أن ذلك يبدو مغوياً وفعالاً على المدى القصير، إلا أنه وصفة أكيدة للتحلل ورداءة الأداء الكلي على المدى الأبعد.

وفي التجلي الأكثر عمومية -وتدميراً- بذل العرب الأغنياء غالباً قدراً وافراً من الطاقة والمال على زعزعة استقرار الجيران وضمان فقرهم، باعتبار أن ذلك وسيلة للنفوذ وتحقيق التميُّز للوطن. ويقترح الكثيرون الآن أن الأموال التي تُصرف على رعاية الوكلاء وأمراء الحروب في الدول الأخرى، لو صُرف نصفها في مساعدة الجيران وتنميتهم، لكان الجميع أفضل حالاً بكثير. ولو أن نظامنا العربي الرسمي كله انتهج الثقة والتعاون واشتغل على النهوض بمواطنيه جميعاً، لأمن على نفسه ولم يكن لديه ما يخشاه من مواطنيه أو من أي قوى أخرى، في الإقليم أو أبعد.

لم تكن الفكرة أن تتخذ علاقة الأغنياء بالفقراء -على أي مستوى- شكل علاقة المُحسن بالمتسول أو استغلال أحد لأحد، وإنما خدمة المصلحة المتبادلة على أساس الكرامة والفائدة. لن يخسَر غني إذا استثمر وخلق الوظائف، فأفاد واستفاد. ولن تخسر الدول الغنية لو أنها استثمرت في مواطنيها وصنعت لهم اقتصادات إنتاجية بثروات بلادهم ورأتهم يزدهرون، وجنَت المكانة والتقدم والسمعة والرضا. ولن تخسر هذه الدول أيضاً، لو هي استثمرت في مواطني الدول الجارة، فأنشأت المشاريع التنموية واستفادت وأفادت بدل الإنفاق على التوترات التي لن تثمر سوى الفوضى المُعدية.

في أوروبا -التي لا نشبهها في شيء- يقلق الغيورون على مصير الاتحاد الأوروبي، ويتوقعون الأسوأ من العودة إلى الحدود والدولة القومية. وفي العام الماضي، شاهد العالم الجدل حول اليونان، وكيف خلُص الأوروبيون إلى خيار إنقاذها، باعتبار أن سقوط دولة في المنطقة سينطوي على خطر تأثير "الدومينو".

"الدومينو" بالضبط هو الذي يحدث للنظام العربي في السنوات الأخيرة. لم يعُد هناك قوي أو مَن هو في مأمن، لأن إضعاف الجار أو استعداءه أو إدارة الوجه عن محنته، لا تذهب بلا انعكاسات. ولن يُفيد إلقاء اللوم على القوى الخارجية وخذلانها أو استئسادها في إلغاء القصور الذاتي وعوامل التدمير البنيوية الخاصة. 

والقاعدة البسيطة هي أن القوي يحترم القوي ويدعي حبه حتى لو كان يبغضه، فيسلم الجميع. وإذا ألقى الجميع قمامتهم عند باب الجيران، فسيمرض الجميع.

ربما يكون الدرس الذي يجب أن يستفاد من فوضى هذه المنطقة -للأفراد والكيانات- أن إفقار الآخر وإضعافه ليس وصفة مضمونة لإعلاء الذات، وأن حاصل جمع النجاحات الفردية، لا بد أن يكون نجاح المجموع.