تعليم وتقييم حد الهاوية
بعد مرور عشرات السنين جاءه أستاذه الذي درسه اللغة الانجليزية في المدرسة طالبا خدمة «واسطة يعني».. قال له الأستاذ: دكتور؛ أعلم أنك تستطيع فعلها، فاحتار الدكتور el قرر أخيرا الإتصال بأحدهم، وتم الأمر، فقال :
أتصلت لأنك جاري في القرية، أما بخصوص فضلك علي بتدريسي اللغة الإنجليزية، فاعلم انني أحمل شهادة الدكتوراة ولا أعرف حتى اليوم كلمة واحدة من اللغة الإنجليزية.. أنا درست في دولة شرقية وأعرف لغتها ولم أفهم يوما في مدارسنا أو أحفظ كلمة انجليزية واحدة..
وحين سؤالي لصديق متفوق في الثانوية العامة، كان قد سافر الى بلد أجنبي للدراسة في الجامعة: كيف تدرسون الرياضيات والانجليزي والكيمياء هناك؟!. قال: دراسة سلسة بلا تعقيدات، وكأنك تشرب الماء !، اسلوبنا في مدارسنا الذي يتبعه معلمونا في تدريس هذه المواد وغيرها «بدائي» يغرق بالتعقيدات، فيبوء الطالب بالصدمات والخوف ثم العزوف عن التعلم إلا رهبة من مستقبل أسود !.. وهما روايتان من تلميذان نجيبان كانا يسكنان ويدرسان في مدارس تقع في مناطق نائية «جنوب البلاد».. وأستطيع القول شمالها ووسطها وفي كل مدرسة وجامعة فيها..
يقول خبراء ومنطقيون : تعليمنا في مدارسنا بالنسبة للتعليم حول العالم، يسيران في طريقين متعاكسين تماما، حتى تلك الدول التي كنا نعتبر أنفسنا متفوقين عليها في التعليم، وساهمنا بتدشين بنيتها التحتية في التعليم، أصبح طلابها يفوقون طلابنا في جامعاتنا وغيرها، والسبب اعتمادهم لأنظمة تدريس «عالمية» ومجربة، وكل الطلبة الذين يدرسونها حول العالم هم بذات المستوى من المعرفة والمهارة والخبرة، بينما نحن ما زلنا بدائيين قياسا بأساليب التعليم العالمية، فما هي المشكلة لو تم اعتماد هذه الأساليب في تعليم أبنائنا في مدارسنا؟! المشكلة:
كيف نؤهل مدرسين يستطيعون التدريس بهذا الأسلوب؟ نحتاج 12 عاما على الأقل لتأهيلهم، لكن أين نذهب بالموجودين وبمدارسهم؟ ومن أين لنا اقتصاد يستطيع تدشين مثل هذه البنية التحتية؟
كيف نتجاوز هذه التحديات المتمثلة بأنماط التفكير المتخلفة: فأولياء الأمور يريدون أن يحصل أبناءهم على أعلى الشهادات في تخصصات الطب والهندسة .. «هبوطا» الى تخصصات تخرج منها عشرات الآلاف منذ عشرات السنين ولم يحصلوا على وظيفة؟
قبل أشهر تحدث مسؤولون عن رفع معدل القبول في الجامعات فثارت ثائرة بناة المستقبل الأردني الواعد، وقالوا لا نريد رفعا لمعدلات القبول، وفي الوقت نفسه يريدون أن يحوز ذوي المعدلات المنخفضة على أرفع الدرجات في أهم العلوم رغم عدم مقدرتهم على هذا، وعلى الوظائف كلها، ثم يبشرونا بمستقبل أردني واعد يبنيه شباب لا يختلفون عن أجداد أجدادهم في مستوى المعرفة !
وفي الجامعات بطولات.. فالرئيس وتعيينه وبطولاته أهم من الجامعة، وهو القصة الكبرى الأكثر أهمية من الجامعة وطلابها، ثم هذا المخلوق الخارق المسمى «دكتور»، حاز على شهادة دكتوراة غالبا بذات الطريقة التي حاز فيها على مقعد بكالوريوس، وما فتىء يتواسط ويزبط الضمائر التعبانة، حتى حاز على الدكتوراة من «دكان ما»، ثم تسخرت له الواسطات واستقطابات الشللية ، فإذا به «دكتور في الجامعة»، يحكم بمصير الطلبة ويرسم، ويتحدث مع المجتمع من أعلى القمم، تلك التي نسميها «التعليم العالي»..
وفي التقييم الجامعي وهيئاته التدريسية وفي العقليات الخارقة والمارقة ملاحم من أساطير نورانية..
متفوقون؛ من صفوة طلاب المدارس، ينخرطون في سباق خطير، ينكبون على الدراسة ليل نهار، وفي نهاية الفصل الدراسي يحصلون على العلامة الكاملة، وأقل علامة بينهم تقل عن العلامة الكاملة 10 أو 15 علامة، وهذا الحائز عليها، أخذ «F» يعني»راسب في المادة» التي بات يعرفها أكثر من مدرسها، هذا الذي رفدته الواسطات حتى أصبح حاكما آمرا ناهيا خبيرا في تضييع مستقبل وجهود الناس، ولا جهات رقابية ولا مرجعيات للتظلم والشكوى..
ثم يخرج هذا البطل الذي تجاوز الاختبارات والصعوبات الآدمية الكثيرة، ونجح، فحاز على شهادة البكالوريوس، يتقدم للوظيفة أو لإكمال دراسته العليا «ماستر» و»دكتوراة»، فإذا به ينافس متقدم آخر تخرج من جامعة أردنية أخرى، فيحوز هذا الآخر على الوظيفة أو فرصة اكمال دراسته، ليصبح دكتورا «جديدا» في الجامعات، وسبب حصوله على الفرصة يكمن في تقديره الجامعي، فهو حائز على تقدير جيد أو جيد جدا من جامعته التي تعتمد نظاما مئويا في احتساب العلامات، بينما الآخر حائز على «d او c» أو تقدير بحرف آخر، وتناسى المصلحون الذين تولوا تطوير وبناء مستقبل الأجيال والوطن، بأن الذي حصل على «d او c» في هذا التخصص يفوق في علمه وخبراته أغلب «الدكاترة» الذين يدرسون المساق والتخصص في أغلب جامعاتنا..
فسيروا الى العلياء حتى تبلغوا بنا قعر الهاوية ..ولا تتساءلوا عن أسباب التخلف والتقهقر والفشل!