مَن الأَولى؟

يتعجب من التوجه العنيف الذي يُسيطر على العقلية الغربية وبخاصة الأمريكية منها، وهذا الأمر يُدركه أي شخص من ملاحظته للأفلام وعناوينها، حيث البطل الذي يواجه الأعداء الأشداء ويصمد أمامهم ببسالة وشجاعة دون نكوص أو تراجع، ويلاقي الموت مرات ومرات لكنه ينجو باستمرار، ثم يُدمّر الأعداء الشريرين في النهاية، ولينجوا الخيرون الأمريكان في الآخر، وبالطبع لا بد من وجود الجميلة الشقراء الممشوقة بزي سافر.......

 

وهذا الأمر: العنف والجريمة والتدمير والتخريب ينسحب على الرسوم المتحركة للأطفال، حيث يشاهد المتابع المئات بل الآلاف من برامج الأطفال التي تحوي البطش والعنف وطيران الأبطال في الهواء وسقوطهم على الأرض وتعرضهم للصخور والإشعاعات دون أذى يذكر ليفوزوا في النهاية.

 

ولقد كنت جالسا مع أطفالي مرة أمام التلفاز، فسمعت في بداية أحد الرسوم مدخلا جميلا تفاءلت به، لكنني صدمت في النهاية:

 

"السماء فيها ملايين النجوم"، ومع هذا الكلام مشهد للسماء بنجومها وبروجها.

 

ثم يكمل المُقدم قائلا: "وبعدد هذه النجوم يوجد أبطال"، ثم النتيجة المحتومة:

 

"وبعدد هؤلاء الأبطال يوجد نزالات"، وهنا يظهر الأبطال الصغار ببدلاتهم اللامعة وبساعاتهم المشعة لليزر، والتي تجيبهم عن أي سؤال، ولتنقلهم على الفور إلى عوالم أخرى مخترقين حاجز الزمن! وليبدؤوا بالصراخ بأصوات أنثوية ناعمة مُدبلجة!

 

إلى أين يذهبون بأطفالهم وشبابهم وبناتهم في هذه الأفلام والرسوم ومن ثم في الحياة؟

 

لقد استهجن سيد قطب رحمه الله في زيارته أمريكا في منتصف القرن الماضي من أعداد الجيوش الأمريكية ومن تجهيزاتها، ومن الاستعداد الدائم للمعركة رغم بعد القارة الأمريكية وتطرفها جغرافيا، ومن غياب الرسالة الصالحة من وراء هذه الاستعدادات.

 

ترى ما هو السبب لهذا الاستنفار الدائم والتعبئة المستمرة والتصنيع الحربي الدائب؟ أيكون السبب هو قصة إنشاء الولايات المتحدة، حيث اعتدوا في بدايات التكوين على أناس عزل أبرياء، وقاموا بإبادتهم ومسحهم من الخارطة، ومن ثم تشكلت عندهم عقلية المعتدي الذي يأخذ حذره باستمرار، ويخشى التبييت ويخاف هجوم الأعداء وثأرهم (بشر القاتل بالقتل ولو بعد حين). وبالطبع قصة قيام دولة اليهود مشابهة ومن ثم كان شعبها بالكامل جيشا، وهم باستمرار على استعداد وتأهب وبحث عن القوة الفارقة الفريدة التي لا توجد عند غيرهم.

 

أنا أعرف أن المهزوم المكسور الذي احتلت أرضه وأفـَلتْ حضارته هو الأولى بالتعبئة والاستعداد والنفير الدائم، فعندما هزمت ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وتسنـّم سدتها هتلر، الذي أراد إعادتها للمجد والسؤدد، أخذ بتعبئة البلاد والقضاء على الترف ومظاهر الترهل، واستطاع التخلص من البطالة كاملة في فترة قياسية، وشجع على التناسل، وشكل وفودا رئاسية تزور بيت كل امرأة تنجب ويقدمون لها تحيات الرئيس ويحملون لها الجوائز والهدايا وحاجات الصغير، ولقد رأيت هذه المشاهد متلفزة متحركة. ثم جعل لوازم الأطفال في المدارس تذكـّر بالمعارك والحروب، فالقلم على شكل صاروخ والمبراة على هيئة دبابة والممحاة على شكل نقالة جند وهكذا!

 

الخلاصة نحن المهزومين الذين فقدنا قيادة القافلة البشرية وخسرنا مجدنا ووحدتنا وتقدمنا وديننا، أولى من غيرنا بالوحدة والاستعداد والتصنيع والأهبة الدائمة، بدل التوجه والتسابق نحو المهرجانات الفنية والغناء والمسلسلات والأفلام ومباريات كرة القدم!