في التاسعة والخمسين!

أدخل اليوم في عامي الستين، وكان يفترض بهذه المقالة أن تُكتب في مثل هذا اليوم من العام المقبل، حيث أكمل ستين سنة تماماً، باعتباري عوّدت نفسي على الكتابة كلّ خمس سنوات، ولكنّني أخرج على قاعدة أسستها أنا، ولعلّ هذا من أبسط حقوقي، فلا يعرف أحد ماذا يخبّئ له الغد، فما بالكم بالسنة المقبلة؟!


وأنظر إلى الوراء أربعاً من السنوات، لأرى فيها تراجعات بعد تراجعات، فبعد أن تقاعدت رسمياً، وظننتُ أنّني سأتفرّغ للزراعة، متخذاً قراراً "لا رجعة عنه” بعدم السفر، وجدت منزلي هدفاً لإطلاق نار بثماني رصاصات مقصودة، فاجتاحتني مشاعر التحدّي العتيق ضدّ ذلك الشبح الذي سيظلّ يعبث بحياتي، وعدت إلى الكتابة، وبعدها، وحين كدت أذهب ضحية حادث سير سخيف، ووقفت أمام ملاك الموت وجهاً لوجه، فتركني، راجعت أوراقي المبعثرة، وأكملت كتاباً لا حبّاً بالنشر، ولكنْ كرهاً بضياع الكتابات بعد الرحيل.

وهكذا، فقد تراجعت عمّا قرّرت، ولأنّ من يتراجع، ويتنازل، سيظلّ كذلك، عُدت شيئاً فشيئاً إلى ما تركته أكثر، فشاركتُ في ندوات وبرامج اذاعية وتلفزيونية ولجنة عامة، وفي يوم وجدتني أجدّد جواز السفر، وأسافر، وأسافر، وأكثر من ذلك، فقد عُدت إلى حربي الصحفية لأعيد إصدار مجلة أوقفها الشبح، وكأنّني أريد أن أقول له: ما زلتُ هنا!

هي أربع من السنوات قد لا تكون الأهمّ في حياتي، ولكنّها الأقرب إلى تكثيفها، فنحن نقرّر ما نريد، ولكنّ الله يفعل ما يشاء، لنكون أمام قدر مكتوب، محتوم، نتدخّل في سياق حركته بالقدر اليسير، لا أكثر، ولا أقلّ.

وأعود إلى مقالتي قبل أربع سنوات، فأجدني كتبت:
أكمل اليوم عامي الخامس والخمسين. وقد صارت عادة أن أخصّص مقالة كلّما تقدّم بي العمر خمس سنوات، وأعود لمقالة الخمسين، فلا أنتبه لتغيير يُذكر، سوى أنني نفّذت بعده قراراً متأخراً باعتزال عمّان، والعيش في بيت متواضع، حميم، في غابة دبين، حيث الطبيعة الساحرة، وروعة الهدوء، وكثير من القراءة وقليل من الكتابة، وكلابي الذين صاروا خمسة!

أما في الخامسة والأربعين فكنتُ أرى نفسي متفائلاً بالآتي وراضياً بالراحل، ثمّ أعود لمقالة الأربعين فأرى التفاؤل أكثر، باعتبار أنّه سنّ النبوّة، أمّا في الخامسة والثلاثين فقد كانت لي صحيفة تمنيت لها طول العمر، راحت هي في خبر كان في العام التالي، وبقيت أنا.

في الثلاثين، كتبتُ مذكّراً أستاذي الكبير، الصحفي اللبناني ياسر هواري بأنّني صرت رئيس تحرير وصاحب مجلة في آن، قبل أن أدخل العقد الرابع، وكان قد تحدّاني قبلها بسنوات باعتباره أوّل من صار رئيس تحرير لمجلة عربية قبل أن يبلغ الثلاثين، أن أفعل الشيء نفسه، وفي تلك المقالة لم أنس أن أذكّر نفسي بأنّ الحبّ الذي أبحث عنه لم يأت بعد.

في الخامسة والعشرين لم أكتب، فقد كنتُ مشغولاً بالبحث عنّي، وفي العشرين كتبتُ واعداً نفسي بالتقاعد في الأربعين، والتفرّغ للكتابة فحسب، ومنذها كتبتُ ستة آلاف مقالة على الأقل، في عشر صحف عربية على الأقلّ أيضاً، وما زلت أنتظر ساعة التقاعد عن العمل لأبدأ بالكتابة.

أكمل اليوم، إذن، العام الخامس والخمسين من العُمر، راحت منها سنوات خمس وثلاثون، على الأقلّ، في الصحافة والكتابة، ولو أنّ قطار حياتي سيتوقف اليوم، لعاجلته بكتابة عنوان كذلك الذي كتبه بابلو نيرودا لمذكراته: "أعترف بأنّني قد عشت”، ولو استطعت لأضفت إليه أغنية: "فعلتها بطريقتي” بصوت ديانا روس، ولو استطعت أيضاً لقفزت من القطار لأبدأ رحلة أخرى في قطار آخر سأجعله يحمل رائحتي، ونكهتي، ولكنّني لن أغيّر في مساره إلاّ قليلاً.

وعليّ أن أقول هنا، كما قلتُ قبل خمس سنوات، حتّى لا أفهم خطأ، فأنا موجود بينكم حتى إشعار آخر أتمنى أن يطول، وذلك ما لن يُرضي قراء يجدونني ثقيل ظلّ، وسياسيين يعتبرونني مشاكساً مزعجاً، وخصوماً يتمنّون لي السكوت، أمّا المحبّون وأظنّهم كثر فسينتظرون منّي مقالة بعد خمس سنوات، وأخرى بعد عشر، وأخرى بعد خمس عشرة، وبعدها فلا أعد أحداً بشيء، وأنهي بالقول: علم ذلك كلّه عند ربّي.