دولة عمان الكبرى



أظهرت النتائج الأولية للتعداد السكاني 2015 بأن 42% من السكان يعيشون في العاصمة، مما يضاعف مشكلة (إستقطاب عمان) التي يتحمل نسيجها الحضري عبء فشل السياسات الحكومية في تنمية المحافظات والمدن الأخرى بالمملكة. لن نخوض في الأرقام الأولية الأخرى، على أهميتها، ولكن ما يهمنا في هذا المقال هو إنعكاس هذه الأرقام على النسيج الحضري للمدينة وبالتالي على الناس والبلد، وسنذكر بالأسباب الموحبة لنشوء المدن ومن ثم سنعرض بديهيات الإقتصاد الحضري الخمسة التي تساعد المخططين على التحكم بحجم المدينة وسعة إنتشارها.
المدينة هي منطقة جغرافية تحتوي على عدد كبير من الناس في رقعة صغيرة نسبياً (تكتل) وبالتالي فإن الكثافة السكانية للمدينة أكبر من الكثافة السكانية للمناطق المحيطة بها. وإستناداً إلى هذا التعريف،فإنه من الممكن التفريق بين ثلاث أنواع من المناطق هي:
• المنطقة الحضرية Urban Area مثل (عمّان والرصيفة والزرقاء والجيزة وماحص والفحيص والسلط والبقعة) والتي تشكل مناطق حضرية يصعب التفريق بين نسيجها الحضري المتداخل.
• المدينة الكبرى Metropolitan Area مثل (أمانة عمّان الكبرى).
• المدينة City مثل (أربد والكرك والعقبة)
والسؤال الذي قد لا نفكر فيه كثيراَ هو، لماذا يترك الناس الأرياف ويتوجهون الى المدن، وللتبسيط، نسأل: لماذا تنشأ المدن Why Do Cities Exist إن الجواب المبسط هو أن الأفراد غير مكتفين ذاتيا، فلو كان بإمكان كل شخص إنتاج كل ما يحتاجه فلن يلجأ لأحد، وسيستغني عن العيش بمكان مزعج ومكتظ كالمدن، إلا أن الدافع الإقتصادي هو المحرك لنشوء المدن، وهو بالتالي مرتبط بسياسات مبنية على فهم للعلاقات الإقتصادية التي يتم مزاولتها داخل المدينة، لهذا فإن إدارة المدن ترتبط بالسياسات الحكومية فإما أن تكون (نعمة) لأمين العاصمة ولرؤساء البلديات وأعضاء مجالسها البلدية، أو تكون (نقمة) عليهم وتبقيهم رافعي لأكفهم، ليس للدعاء والحمد والشكر، وإنما لتلقي الضربات التي تنهال عليهم ساعة بساعة ويوماً بيوم من جراء السياسات والتدابير الحكومية.
فإن كانت المدن مشكلة، وهي ليست كذلك، فعلينا ان نحدد معايير نحتكم اليها حتى نقيس المرتبة التي يجب عندها ان نطلق على الوضع صفة (المشكلة) لهذا سنعيد التذكير بالبديهيات الخمسة للإقتصاد الحضري كما حددها سوليفان Arthur Sullivan وهي:
1. الأسعار تتبدل للوصول الى التوازن المكاني، كأن يتنافس شخصان على إستئجار شقتين الأولى في عبدون والثانية في الأشرفية، فعلى فرض ان بدل الإيجار متساوي للشقتين، فسيحارب كل من الشخصين للحصول على شقة عبدون، ولكن الميزة المكانية لشقة عبدون ترفع من سعرها، وبالتالي يرضى صاحب الدخل المنخفض بشقة الأشرفية، ويستمتع صاحب الدخل المرتفع بشقة عبدون.
2. التعزيز الداخلي يولد مخرجات قياسية، كأن يتجمع تجار من أصحاب المهنة الواحدة في منطقة واحدة على الرغم من أنهم متنافسون لتسويق بضائع متشابهة مثل معارض السيارات وسوق الخضرة.
3. التدخلات الخارجية تتسبب بعدم الفاعلية، كأن تسمح الأمانة بدخول الشاحنات لوسط البلد حيث سيستفيد أصحاب الشاحنات بعدم دفع الكلفة الإجتماعية لفعلهم هذا فيما لو لم يتم فرض رسوم إستعمال عالية، وبهذا يمكن تحقيق التوازن ولنترك للمستخدمين إختيار البديل الأنسب.
4. الإقتصاد يتأثر بإقتصاد الكم Economic of Scale حيث تنخفض كلفة المنتج بإزدياد الكمية. وهل تتأثر المدن بهذه القاعدة الإقتصادية؟ الجواب، بالتأكيد نعم، لأنه بدون (إقتصاد الكم) لن يكون هناك مدن، لأنه من المكلف جداً نقل البضائع من موقع الإنتاج للمستهلكين، وعليه فإن الإنتاج المركزي في المدن سيكون أكثر جدوى فقط في حال وجود مكتسبات تعوض كلف النقل. وهنا يتدخل المخطط عند تحديد إستعمالات الأراضي بما يحقق نوع من التوازن، وخير مثال على ذلك نقل المصانع الى خارج النطاق العمراني أو ما يعرف بحدود البلدية، سيصطدم بمعارضة أصحاب المصانع لأنهم يرغبون في تقليل كلف النقل، وبالسماح لهم بذلك تنخفض كلف البضائع عند الإنتاج بالمدن مما يزيد من إستقطابها للناس، ولهذا تجد سعر المشروبات الغازية مثلا أعلى منه سعراً في قرية نائية منه في مول بالعاصمة.
5. التنافس يؤدي الى ربح بمقدار الصفر، ويقصد بذلك إنفلات التنافس بدون ضوابط حيث يستمر دخول المحلات الى السوق وتتوالى التنزيلات حتى تقترب من الصفر. والتجسيد المكاني لهذه القاعده هي بانتشار البسطات بدل من المحلات حيث يسعى التجار لخفض كلف الإنتاج لحصد ربح أكبر من الصفر بقليل.
وبما أننا عرضنا بديهيات الإقتصاد الحضري، فقد أصبح من الواضح أن التحكم بحجم المدن مقرون بفهم هذه البديهيات والعمل بموجبها من قبل واضعي السياسات وإدارات المدن. وعودة الى ما بدئنا به مقالتنا هذه من النتائج الأولية لإحصاء السكان والمساكن 2015 فانه من المتوقع ان يستمر إستقطاب مدينة عمّان لتصل الى نسب تقارب 100% وفقا للقاعدة الخامسة سابقة الذكر، وهذا ليس من باب المزاح او التندر، ولكن النتائج تشير بوضوح الى ذلك، فتصبح دولة عمّان بدلاّ من دولة الأردن، فما العمل إذن؟
لن يكون بمقدور مقالة صغيرة الإجابة على هذا السؤال الكبير، وينصح بإنشاء (المركز الأردني للتخطيط الإقليمي والحضري) ووضع البيانات الإحصائية بمتناوله حتى يعيد النظر بالمخططات الشمولية للمدن بالتناغم مع قانون اللامركزية، على علاته، بما يمهد لإعادة صياغة وثيقة الأردن 2025 التي أصبحت في خبر كان بعد هذه النتائج الإحصائية الصاعقة.