قرارات الفوضى والارتباك

قضيتان مهمتان تمسان حياة شرائح واسعة من المجتمع، يصدر بشأنهما، فجأة، قراران عن مجلس الوزراء. ولأكثر من سبب، نجد الحكومة تتراجع عن هذين القرارين، بما يعكس تخبطا رسميا في إدارة الشأن العام.
لا يوجد تفسير منطقي لما تقوم به الحكومة سوى الارتباك الناجم عن غياب الرؤية والمشروع. لذلك، ترى القرارات تُتخذ، لتنسف في اليوم التالي، من دون حساب لتبعات ذلك على الثقة الشعبية بالحكومة وأدائها، كما على تكريس مفهوم الحرص على مصالح الناس وعدم الإضرار بها.

فنهج التراجع عن القرارات إنما يؤكد الارتجال في اتخاذها؛ بعيدا عن دراسة معمقة تحدد أبعادها الاجتماعية كما المالية. وهو يشي أيضا بغياب فكرة الخطة والهدف لدى الحكومة الحالية.

أول القرارين المقصودين، كان ذاك المتعلق برفع رسوم ترخيص المركبات، والذي اتُخذ ونُشر في الجريدة الرسمية، فدخل حيز التنفيذ فعلاً. وعندما علمت به العامة وطال جيوب المواطنين، لم تجد الحكومة مبررا مقنعا له، كما لم تتمكن من شرح فضائله للرأي العام. ولا تكاد تتوفر من معلومات تفسر منطقياً ما حدث، سوى أن الوزير المعني لم يكن قد درس القرار بأبعاده المختلفة.

القصة الأخرى التي تكرّس القناعة بغياب الرؤية والعمل بعشوائية من دون اعتماد لمعايير الحفاظ على الهيبة، تتمثل في القرار الخاطئ الآخر لمجلس الوزراء، والصادر يوم الأربعاء الماضي، بإعفاء حَمَلة الجوازات المؤقتة، وضمنهم أبناء قطاع غزة، من رسوم تصاريح العمل عن المرحلة السابقة، والبدء باستيفاء رسوم هذه التصاريح منهم اعتباراً من تاريخ الأول من كانون الثاني (يناير) الحالي.

وهذا القرار يبدو أخطر من السابق، لأن الجباية وحدها لا تكفي لتبريره. فالغزيون خصوصاً، وحملة الجوازات المؤقتة عموماً، ليسوا عمالة وافدة، ولا يجوز للحكومة، تحت أي ظرف من الظروف، التفكير بهم من هذا المنطلق، لأن أوضاعهم والظروف التي أوصلت إليها تختلف تماما. وليكون متخذ القرار، بالتالي، قد أسقط ظروف لجوئهم ومعاناتهم مع المحتل الإسرائيلي من الحسبة، كما أسقط البعد الاجتماعي والسياسي من معادلة اتخاذ القرار.

هنا أيضاً، وبعد انتشار الخبر وبدء ردود الأفعال الشعبية والنيابية، سارعت الحكومة إلى التراجع عن قرارها، معلنة عن ذلك على لسان رئيس الوزراء بمجرد جلوسه تحت قبة البرلمان في جلسة أول من أمس، اذ قررت الحكومة إعفاءهم من رسوم تصاريح العمل.

لم تخطئ الحكومة بالتراجع عن القرارين، لأن الخطأ كان أصلا بالإقدام عليهما. لكن هذا هو ما يطرح السؤال المهم حول الآلية التي تتخذ بها القرارات؛ هل تخضع لنقاش وافٍ في مجلس الوزراء؟ هل يقدّم الوزير المعني مرافعته لباقي زملائه ورئيسه ليقنعهم باتخاذ القرار، أم أن الأمور تسير "على التساهيل"، كيفما اتفق؟

الحل الأسهل للخروج من هكذا أزمات، وإسكات الناس وتهدئة موجة الاحتجاج التي عمّت مواقع التواصل الاجتماعي، تمثل في التراجع عن القرار، على قاعدة "لا ضرر ولا ضرار". لكن الحقيقة غير ما يتخيل متخذ القرار. إذ بخطوة التراجع تخسر الحكومة كثيرا؛ عبر تقديم نفسها مؤسسة غير مسؤولة عن قراراتها، أو حتى ضعف إيمانها بقرار متخذ من قبلها، وقّع عليه مجلس الوزراء، وبما يعني أن كل وزير مهر القرار بتوقيعه قد ساهم في هذا القصور.

إن ظنت الحكومة أن آثار مثل هذا النهج تنتهي بمجرد التراجع عنه، تكون مخطئة؛ فانعكاساته السلبية على صورتها وقدرتها على اتخاذ القرار تبدأ مع التراجع عن أي قرار. ويبدو أن الاستفادة من درس قرار زيادة رسوم ترخيص المركبات، ما تزال غائبة، وإلا لما أعادت الحكومة الكرّة بقرار تصاريح العمل للغزيين وحملة الجوازات المؤقتة.