فوضى الفتاوى… الوجه الحقيقي للتطرّف
في خريف 2011، مرحلة الهوس الديني المواكب لرهان اليمين الإسلامي على اقتراب حلم "الخلافة”، رفعت لافتة على واجهة مسجد في حي "الطالبية” بشارع فيصل، تبشر المصلين "نجوم الفضائيات يلقون دروسا عقب صلاة التروايح”.
إعلان يخلو من زُهد "العلماء” ووقار مفترض في "الدعاة”، يَقْرنُ المعرفة، وهي نقلية تخاصم العقل الذي هو معجزة الإسلام، بالشهرة التي تُصنع صنعا، وتستثمر فيها أموال ورجال، بوسائل أقرب إلى بيع النفوس البشرية.
كانت صلاة التراويح تمتد حتى قرب الفجر، ولا يبالي المصلون بتلال من قمامة حول المسجد، أسهموا في تعليتها بإلقاء حمولاتهم وهم قادمون للصلاة، ومكبرات الصوت خارج المسجد تضخ خطبا بين الصلوات عن فضل "الجهاد”، ووجوبه، ويرتفع الاستشهاد بحديث "ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا”، تمهيدا للصراخ بأن ما يعانيه المسلمون من "ذل” وفقر، إنما هو تحقيق لوعيد الرسول لمن تركوا الجهاد.
في صباي كنت أخجل، منذ وعيت على غزو السوفييت لأفغانستان، لأنني لا أستطيع المشاركة في "فريضة الجهاد”، وتعويضا عن عجز مقترن بصغر السن لجأت إلى تراث حسن البنا وسيد قطب، وما كانت تنشره مجلة "الدعوة” من مقالات تقسم العالم إلى فسطاطيْن، وتؤكد أن "ديار الكفر” لم يعد لديها ما تقدمه إلى البشرية، وأنها توشك على الانهيار، بعد أن أصبحت مخزن الفساد الأخلاقي. ولم أسأل نفسي آنذاك، ولا سأل أحد الداعين إلى الغزو والسبي نفسه الآن: بأي سلاح سنحارب "الكفار”؟ ونحن نستورد منهم أسباب الموت والحياة، الأسلحة والأدوية، والقليل الذي ننتجه في بلادنا تصنعه آلات اشتريناهم منهم، فأي الفريقين أحق بالفخر؟
فوضى الفتاوى
وما جعلني أكتب اليوم عن "الجهاد” أن مصادفة أدخلتني للمرة الأولى الموقع الإلكتروني لدار الإفتاء المصرية. هناك ستنفصل عن عالمك، عن القرن الحادي والعشرين، وتعود إلى القرن السابع الميلادي، محاصرا بفتاوى عن الجهاد، وحكم زيارة أضرحة آل البيت، هل للرجل عدة إذا أراد الزواج بأخت زوجته المتوفاة؟ حكم كلام المرأة عبر المذياع وتصريحها باسمها، تصويت النساء في قرارات مجلس شورى، حكم مشاركة المرأة في العمل السياسي والاجتماعي، حكم لبس المرأة الحلي فوق الملابس أمام الرجال الأجانب، كيف يقبض ملك الموت الأرواح في وقت واحد؟
غابة من التفاصيل تقدم إليك تفسيرا لجيوش المدرسين والدارسين والمفسرين والمحققين والخطباء و”الدعاة” الذين يوحون لمن لا يعرف الإسلام أنه دين معقد، يستعصي على ذوي الفطرة السليمة، فلا يفهمون غايته، ولا يدركون مقاصده، إلا عبر وسطاء يتخذون من هذا التعقيد "أَكْل عيشْ”، إذ يسهل على أصحاب الفطرة "الإنسانية” الاستغناء عن ما رواه الشيخان وغيرهم، وتجاهل تفاسير التفاسير، والهوامش على المتون، وتلال من كتب ينسخ بعضها بعضا، وغيرها من بضائع "الدعاة”.
الفطرة الإنسانية تقود مباشرة إلى بر الوالدين، والعطف على الجار، وكفالة اليتيم، والإيمان بأن النساء "شقائق الرجال”، وأن صوت المرأة وزينتها لا تثير إلا البهيم، وعدم تلويث ماء النيل والاعتداء على المال العام واقتطاع جزء من شارع أو رصيف، دون الاهتمام بكيفية قبض ملك الموت لأرواح البشر في وقت واحد رغم اختلاف أماكنهم؟
توقعتُ أن أجد فتوى تجرم سلوك لصوص الدين من "الدعاة”، ومن يصادر مستقبل الأوطان ومصائر "المواطنين” تحت أي ذريعة، ومن يفرق بين "المواطنين” على أساس الدين أو المذهب. لم أجد شيخا "يتبع” عمر بن الخطاب في شجاعته، إذ ألغى سهم "المؤلفة قلوبهم” من نصيب مستحقي الزكاة، ولم يكفره أحد بحجة أنه لا اجتهاد مع النص القرآني.
انتظر رجل دين شجاعا يحدد بدقة مفهوم "الجهاد” الذي لا يتفق عليه "الدعاة”، ويفسره كل وفق هواه في خدمة السياسي، منذ الفتنة الكبرى حتى الحرب الأهلية الحالية في اليمن. في أي صراع بين مسلمين ومسلمين منذ معركة صفين لا نعرف أيهما يجاهد؟ في الحرب العراقية الإيرانية لم نعرف من يبتغي وجه الله؟ الفتيان الذين دفعهم الخميني إلى النيران ففرحوا باقترابهم من الجنة، أم جنود صدام حسين؟ وفي الخلاف الفلسطيني قتل رجال حماس في غزة رجالا لفتح بإلقائهم من فوق البنايات، فأيهما كان يجاهد في سبيل الله؟ وأغلب ضحايا داعش والفرق الإرهابية في سوريا يكبّرون الله قبل قتل مسلمين عزّل، ويفرحون بالنصر المبين.
خسارة عدالة قضية فلسطين
وفي حالة فلسطين المحتلة لا ينبغي رفع لافتة "الجهاد”، والتسلح بذرائع دينية يمتلك العدو الصهيوني شبيها يناقضها، فندخل متاهة حرب النصوص، ونخسر عدالة القضية وهي باختصار اغتصاب دولة اسمها فلسطين، وتهجير مواطنيها، ورفض حق عودتهم إليها بالمخالفة للمواثيق الإنسانية.
من المهم إقناع العالم بأن الكيان المسمى إسرائيل نشأ بالاغتصاب الاستيطاني الاحتلالي، واستمر بعدوان مستمر تسهم فيه قوى زرعت إسرائيل، إضافة إلى تركيا بتعاونها مع إسرائيل في تدريب طياريها، وهي الشريك العسكري والاقتصادي الأكبر للعدو.
سنقنع العالم بعدالة قضية فلسطين مع نهاية آخر سلالة لصوص الدين، الناطقين باسمه من دون وجه حق. حين ينتهي قتل العربي بيد العربي، والمسلم بيد المسلم، وكلاهما يرفع المصحف. حين يغادر الحاكم منصبه بعد فترة واحدة، لأنه لم يحقق ما كان يظن نفسه قادرا عليه، ولن يخاف انتقام الحاكم التالي.
حين نسمو إلى فطرة "إنسانية” بلغها الغرب فلا نتلصص على جار، ولا نتحرش بامرأة ولو بنظرة ساخطة إلى ملابسها، نظرة تعري بؤس صاحبها الكاره للبشر والجمال. حين لا تنشغل جهات الإفتاء بالتنافس في تفاهات منها تهنئة المسيحيين بأعيادهم.
في عام 2012، رفض سلفيون مصريون الوقوف للسلام الوطني في البرلمان، وبعد أيام وقفوا للسلام الوطني الأميركي في احتفال بالسفارة الأميركية.
وفي موقع دار الإفتاء سؤال عن حكم تحية العلم والوقوف للسلام الوطني، وقد طالت الإجابة، وتشعبت حتى يضيق بها صدر السائل والقارئ الذي سيلعن السائل والمجيب معا، ولن يمنحه الله صبرا ليقرأ ما يساوي فصلا في كتاب، إذ تبدأ الإجابة بتعريف معنى "العلم” في تاج العروس للزبيدي، ثم روايات لابن ماجه والترمذي وأبي داود، وابن حجر في "فتح الباري”، والحاكم في "المستدرك”، وصولا إلى إباحة العز بن عبدالسلام للآلات، ثم استشهاد بمرور قيس بن الملوح على الديار، "وما حب الديار شغفن قلبي – ولكن حب من سكن الديارا”، وعودة إلى روايات لأحمد والحاكم والبيهقي والدارمي عن عكرمة بن أبي جهل، ومالك في "الموطأ”، والخطيب الشربيني في "مغني المحتاج”، والنووي في "التبيان في آداب حملة القرآن”، ومرعي الكرمي في "غاية المنتهى”، والطبري في "تهذيب الآثار”، وابن سعد في "الطبقات”، والمواق المالكي في "سنن المهتدين في مقامات الدين”، والسيوطي في جمع الجوامع وشرحه همع الهوامع، والطحطاوي في حاشيته على مراقي الفلاح، وابن عابدين في رد المحتار، وشهاب الدين القرافي في الفروق. وتصل الفتوى إلى أن تحية العلم أو الوقوف للسلام الوطني "أمران جائزان لا كراهة فيهما ولا حرمة”.
بضع كلمات تلخص الفتوى، وتذكر بفطنة العجوز، حين أدهشها رجل يتزاحم عليه مريدون، فسألت: من يكون؟ فقيل لها: هذا الإمام الرازي، عنده ألف دليل ودليل على وجود الله. فقالت: لو لم يكن عنده ألف شك وشك ما احتاج لألف دليل ودليل، أفي الله شك؟. وحين أخبر الرجل بكلامها قال: اللهم إيمانا كإيمان العجائز.
روائي مصري