المشهد "الإخواني".. رؤية من بعيد

إذا كان المطلّون على المشهد "الإخواني" عن كثب، غير قادرين على سبر غور هذا المشهد المعقد، وتقديم إجابات شافية عن الأسئلة الملغزة، وكنه التطورات الجارية داخل أروقة أكبر جماعة منظمة في الأردن، فما بال حال المراقب عن بعد، وحال الرائي للصورة من الخارج، من دون خبرات تخصصية كافية بماهية الأزمة المتدحرجة، أو معرفة تامة باعتبارات ودوافع سدنة القلعة، التي أُخذت من الداخل أخيراً، بعد أن استعصت طويلاً على محاولات أخذها من الخارج.


تختلف قراءات هذا المشهد الذي بات محل نقاش على مستوى النخبة؛ بين من يعلمون بدهاليزه المحجوبة عن الأنظار حتى الأمس القريب، وبين المنخرطين في مخاضه بالكامل، سواء كانوا من الأركان والأعضاء والمريدين، أو من الخبراء في شؤون الجماعات الإسلامية. إلا أن القراءة الوحيدة التي لم تطرح بعد للنقاش العام، هي تلك التي تصدر عن أصحاب وجهة نظر مستقلة التفكير، ترى المشهد الكلي عن بعد، ولا تحفل كثيراً بتفاصيله المشوشة.


من هذه الزاوية المتجردة عن الغرض، وبمقاربة مسكونة بحسّ تاريخي وعقل بارد، نقول إن هناك آفتين لا شفاء منهما، تقفان وراء جل الوقائع الكبرى والأحداث الفاصلة. الأولى، آفة الفساد والاستبداد التي تخص الدول التي دالت إلى غير رجعة، بما في ذلك الإمبراطوريات القديمة والدول الحديثة. والثانية، آفة التشدد والانغلاق، المفضية بالضرورة الموضوعية إلى تعطيل العقل، وإنتاج مظاهر التطرف والانشقاق؛ وهي مظاهر تخص الأحزاب والمنظمات الدينية على وجه اليقين.


إذ تدلنا دروس التاريخ وعبره البليغة، أن روما التي كانت أعظم قوة عرفتها البشرية في الزمان القديم، لم تنهر بفعل غزوات خارجية، أو بما يسمى اليوم "مؤامرات كونية"، وإنما بفعل استشراء حالة الفساد التي ضربت أسس وقيم وسائر بنى الإمبراطورية التي حكمت معظم العالم في حينه لقرون عديدة، ثم تمزقت شر ممزق، حين دب في أوصالها الفساد والاستبداد، وصار كل شيء فيها قابلا للبيع والشراء، بما في ذلك إمرة الجيوش وعضوية مجلس الشيوخ.


وتمدنا الخبرات الشخصية المكتسبة، أن أكبر الأحزاب وأشدها تماسكا، انقسمت على ذاتها بعد أن تراكمت لديها الإخفاقات، وفشلت في تبرير نفسها للرأي العام، وخسرت حتى وجودها التنظيمي، عندما افتقرت لقيادة معتدلة، قادرة على التكيف مع المتغيرات، وتقديم خيار الحكمة على مبدأ العدالة، والاستجابة للتحديات الملحة،على نحو ما تقصه علينا تجارب أحزاب ملأت عين الشمس، ودامت لكثير من الوقت، ثم انتهت إلى لا شيء.


وأحسب أنه عندما يتم، لاحقا، تأريخ هذه المرحلة من الحياة السياسية الأردنية؛ أي حين يتم تجاوز التفاصيل الصغيرة لصالح الوقائع الكبيرة، لن يكون في وسع أحد من رواة الماضي غض بصره عن مسؤولية قادة الصف الأول لجماعة الإخوان المسلمين في تشديد حالة الانغلاق التي أصابت سكان الطوابق العليا من صرح الحركة الإخوانية، وتسببت في حدوث هذه الموجة من الانقسامات المتتالية على خلفية المنافسات الشخصية، لدى قيادة لم تحسن قراءة المتغيرات الجارية تحت عباءتها، ولا تلك الجارية في المحيط الواسع من حولها.


بالنتيجة، فنحن اليوم أمام مرحلة سماها الزميل محمد أبو رمان "مرحلة ما بعد الاخوان". إذ من المرجح ألا تتمكن أي محاولة مسكونة بحسن النية، من النجاح في إعادة ترميم بيت بات من الماضي، واستعادة الصفحة الذهبية من تاريخ هذه الجماعة، على نحو ما كانت عليه قبل أربع سنوات. فحين يجف النبع من مصدره، لا يتبقى في المجرى سوى برك متفرقة وحصى كثير، تماما على نحو ما آلت إليه أحوال كل من الحركة القومية والحركة الشيوعية.


وبجملة أخيرة، فإن ما كان يعرف باسم "الربيع العربي"، كان في حقيقة الأمر زلزالاً سياسياً غيّر وجه المنطقة، وأدت ارتداداته السياسية السلبية الكثيرة إلى تخليق كل ما تعانيه الدول والشعوب والأحزاب من متاعب في الوقت الراهن، فما بالك والحركات الإسلامية كانت في صدراة هذا "الربيع"، بل وفي موضع القلب منه؟ فهل كان من المقدر للإسلام السياسي أن ينجو، وحده، من تبعات هذا الذي زلزل الأرض من تحت أقدام الجميع، وأن يظل لسان حال شيوخه يردد: لم رأينا، لم قلنا ولم سمعنا؟