الأمن الناعم والمعارضة الخشنة
ضرب الأردن مثالاً حضارياً قل نظيره في المنطقة في غمرة تصاعد الحركات الاحتجاجية والتظاهرات المطالبة بالإصلاح السياسي في الشهور الماضية. فباستثناء بعض الحوادث المؤلمة القليلة، أخذت جميع التظاهرات والاعتصامات طابعاً سلمياً، وتميزت بدرجة عالية من الحس الوطني من قبل كافة الفئات الاحتجاجية، التي قوبلت أيضاً بدرجة عالية من الانضباطية والحرفية والاحترام من قبل الأمن العام؛ هذا الأسلوب الذي أطلق عليه مدير الأمن العام مصطلح "الأمن الناعم" لما ينطوي عليه من تسهيل مهمة المتظاهرين في ممارسة حقهم المشروع، وتغييب أي شكل من أشكال الاستفزاز للمتظاهرين، سواء أكان ذلك بحمل الأسلحة أم بالجهوزية للتصدي للعنف في حال حصوله. وقد سجلت أكثر من ألف تظاهرة أو اعتصام في الشهور الثلاثة الماضية أخذت الطابع السلمي، باستثناء حالات شابتها بعض أعمال عنف. وبذلك، فقد تم نسج علاقة جديدة بين الأمن والمواطن، تقوم على احترام حقوق المواطنين من قبل الأمن العام، والمحافظة على السلم والاستقرار من قبل المتظاهرين والمحتجين، وكان هذا إنجازا أردنيا بامتياز.
وقد جاءت حادثة الزرقاء التي مثلت حالة شاذة من الخشونة من قبل المتظاهرين من الجماعات التكفيرية صادمة ومحزنة لكل الأردنيين، وخاصة بسبب حجم الأذى والإصابات في صفوف رجال الأمن العام نتيجة للاعتداء عليهم بالأسلحة البيضاء، وما ترتب عنه من طعن وإصابة العديد منهم.
لعل هذه الحالة المؤلمة تتطلب التوقف عندها من أجل الخروج ببعض الدروس المستفادة للمستقبل. فبالرغم من ثبات صحة وأهمية ضرورة الاستمرار بنظرية "الأمن الناعم"، إلا أنه قد يكون ضروريا تجهيز مرتبات الأمن العام بكل الوسائل التي تمكنهم من الدفاع عن أنفسهم في حال اتخاذ المظاهرات والاحتجاجات الطابع والأسلوب الخشن في المعاملة، أو في حالة تحول المظاهرات من سلمية الطابع إلى استخدام العنف. فقد يكون صحيحاً أن تجهيز رجال الأمن العام بالمعدات التي تمكنهم من الدفاع عن أنفسهم وحفظ الأمن قد يؤدي إلى استفزاز المتظاهرين، وبالتالي قد تكون سببا من أسباب العنف، لكنه صحيح أيضاً أن العكس قد يؤدي إلى التطاول عليهم. وحتى يتم تفادي ذلك، فلا بد من تطوير قواعد للاشتباك تكون دليلاً لرجال الأمن العام في تعاملهم مع كل أنواع وأشكال الاحتجاج، ناعمة كانت أم خشنة.
وحتى يكتمل المشهد، فلا بد لوزارة الداخلية من أن تقوم بتطوير تعليمات تكون ضابطة للحراك الاحتجاجي بما يكفل حق وحرية المتظاهرين من جانب، ويحافظ على حقوق الدولة والمواطنين من جانب آخر. لقد بات ذلك ضرورياً بعد التعديلات التي طرأت على قانون الاجتماعات العامة والتي ألغيت فيه موافقة المحافظ المسبقة واستبدلت بالإخطار فقط، وأن يرافق عملية الإخطار أو الإشعار تحديد الموقع أو المكان الذي سيحدث فيه الاحتجاج أو التظاهرة، وتحديد مسارها مسبقاً، وتحديد الأطراف المسؤولة عن ضبطها. وبالتالي، سوف يكون بالإمكان ممارسة المحتجين لحقهم من دون الخروج على القانون ومن دون التعدي على حقوق الآخرين. وفي الوقت نفسه، يمكن محاسبة الخارجين على القانون.
إن نظرية "الأمن الناعم" هي إنجاز لمدير الأمن العام، لا بد من المحافظة عليه، لكنه في الوقت ذاته، لا بد من تطوير أسس وقواعد الاحتجاج من أجل المحافظة على حقوق المواطنين بالاحتجاج، وتحصين رجال الأمن العام من خشونة الشارع إذا ما حصلت.