نداء وشرارة

أما عن النداء؛ فهو فكرة حضارية راقية، تفيد بأن الناس أحرار، سواء في وطني أو حول العالم، وهم يتمتعون بحرية الاعتقاد ومنظومة من الحقوق الأخرى، وحقهم في اختيار اللباس الذي يريدون مكفول، حتى التعري لهم فيه حقوق..


أما الشرارة؛ فقد انطلقت منذ زمن، واشتعلت واشتغلت بها بعض الرؤوس الجافة القابلة للاشتعال والاحتراق، حتى وإن لم تتوافر ظروف كافية للاشتعال.. فهي تشتعل ويتصاعد منها دخان يزكم الأنوف..

نداء شرارة؛ فتاة حازت على لقب عالمي في الغناء، في الموسم الثالث من تصفيات النسخة العربية من برنامج «ذي فويس»، وعلى الرغم من تذوقي للموسيقى بكافة أنواعها، إلا أنني لم أتابع البرنامج هذا العام، لأنني لم ترق لي الأصوات التي سمعتها في متابعة لم تدم لأكثر من جولة غنائية بين فواصل دعائية مملة، والسبب الأهم يكمن في أنني أصبحت أمتعض من الهبوط الكبير في مستوى تعليقات الحكام على أنفسهم وعلى الناس.. ماعلينا.

المهم يكمن فينا، نحن الذين امتعضنا كل الامتعاض من الحملات الزائدة عام 2003، التي شاركت بها جهات رسمية باعتبارها فتحا وطنيا، وذكرت غير مرة قيام مواطن فقير مديون باقتراض قرض من بنك، بلغت قيمته 3000 دينار، من أجل أن يقوم بالتصويت بلا انقطاع للمتسابقة ديانا كرزون آنذاك .. كنت أتخيل أن الشوارع آنذاك تغني «أنا مو ولهان أنا» بالإضافة الى «طل الصبح يا علوش»، ثم تم الأمر ونجحت ديانا، وكلما سمعت صوتها الجميل تغني « يا أردن الشومات يا لمة هلي..يا محوطة بزين الملوك تدللي» أتذكر تلك الأيام الثقيلات وأتذكر وجه حبيب الزيود المتخفي بحجاب من سكون، تكمن تحته براكين من حس وطني إنساني صادق وفي لكل وطني جميل..

الذي لفت نظري الى هذا الموسم من برنامج «ذي فويس» متعلق بأفكار متعفنة، وجدت ضالتها على صفحات التواصل الاجتماعي، فأصبحت بعض اللواتي يضعن صورا لخصرهن، أو شعرهن أو صدرهن على تلك الصفحات، ويتوافد حولهن قطعان من المهووسين، يكيلون لهن الاعجاب والمدح، أصبحن يطلقن فتاوى هذه المرة، تتعلق برأيهن الشرعي والفرعي بالحجاب والغناء، ويهاجمن نداء شرارة لأنها تغني وتضع على رأسها حجابا، فأدركت بأن الفتاة ستفوز حتى وإن لم يكن صوتها جميلا، وسوف يحوز حجابها على أصوات، فالذين يستفزهم الكلام ضد الحجاب سيقفون هذا الموقف دونما اكتراث بهذه الفتاوى وغيرها.. ثم قررت حضور الساعة الأخيرة من الحلقة النهائية لهذا البرنامج، وبعد تحايل على الفواصل الاعلانية، استطعت التقاط الجزء النهائي من الحلقة وهو اعلان الفائز، ولم أسمع صوت نداء سوى بعد أن حازت على اللقب وغنت مقطعا لأم كلثوم.. وكان صوتها جميلا.

البعد الذي أتناوله في هذه المقالة «فكري –اجتماعي» بالدرجة الأولى، ويبدو أن الانفصام المقيم في بعض العقليات الهزلية، يطغى، ويريد أن يفرض على الناس رأيه بطريقة تنم عن حالة مرضية، وتتعاظم خطورة هذا التوجه حين تختفي صورة نداء من وسائل إعلامنا، بصورة تبعث على الاستهجان حين نقارنها مع تلك الحملات التي تمت من أجل ديانا كرزون، بل من أجل يوسف عرفات، والمطرب الفلسطيني محمد عساف.. ما هي الخلطة الغريبة العجيبة التي يريدون منا أن نتجرعها ونلجلج بالصوت ضدها ؟!.. قبح الله الجهل وصاحبه، فعدو عاقل خير من صديق جاهل.

مضت أيام كنت أحرص فيها على حضور «بروفات» يؤديها «كورال الجامعة الأردنية»، وفيه أكثر من 20 عضوا كلهم طلاب في الجامعة، أكثر من نصفهم طالبات، في كليات مختلفة منها الهندسة والطب والصيدلة وغيرها، وأكثر من نصف الطالبات يرتدين الحجاب ويتمتعن بأصوات جميلة، وكنت اتذوق أداءهن، ولا ألتفت مطلقا للشكليات، فالصوت هو ضالتي، وضالة أي متذوق «طاهر» للموسيقى والغناء..

الحملة ضد الفتاة الأردنية نداء شرارة مفهومة بنظري، لكنها حين تتخذ من الحجاب ذريعة، فهي وفوق الإساءة الوطنية تقدم إساءة أخرى خطيرة، وهي إساءة عقائدية، أتذكر معها تلك الدعوات والحوادث التي تقع بحق مرتديات الحجاب من قبل متطرفين في أوروبا، واللافت هنا، أن «قطط» الانترنت هن من يقدن الحملات ضد فتاة ترتدي الحجاب وتفوز بجائزة غنائية عربية كبيرة، وتحوز القطط المذكورة على تأييد من مخلوقات ذكورية، أمهاتهم وأخواتهم وزوجاتهم وبناتهم يرتدين الحجاب، ويتذوقن الموسيقى! وهذه مفارقة نفسية أخرى، تعبر عن اغتراب وتعقيد فكري ونفسي لا يطاق..

لو كان لدي الوقت الكافي، لفعلت:
أعفي ذقني من الحلاقة ليمتد مترا في كل الاتجاهات، ثم «أشمط» موالا، ليلوذ ويهرع كل من يسمعه الى ركن ركين، أو يقول «تقية»: اللـــــــــــــــــــــــــــــــــــــه..يا شيخ.

انتو شو دخلكوا بلبس الناس!