مع رئيس الديوان الملكي

بدعوة كريمة من الصديق مفلح العدوان، مدير الدائرة الثقافية في الديوان الملكي، كنت الأسبوع الماضي على مائدة العشاء مع دولة الدكتور فايز الطراونة رئيس الديوان الملكي الهاشمي العامر، إلى جانب نخبة من الناشطين في حقل الثقافة، يحدثنا حديثاً عميقاً ومفيداً عن الأوضاع في المنطقة وآخر تطوراتها السياسية. 

وأكثر ما لفت انتباهي في الحديث الموازي للموضوع السياسي، كان كيفية العمل على مقاومة احتمالات انتشار الخطاب الديني الداعشي، المتطرف، في مجتمعنا من خلال المنابر الدينية، إذ فهمت أن المعالجة ظلت دينية بحتة؛ أي تتمحور حول الرد على استعمال المتطرفين دين الإسلام شعاراً وحجة لتبرير أفعالهم.


علينا أن ننتبه أن التنظيمات المتطرفة التي نسبت نفسها إلى الإسلام، لم تكن منذ ظهورها المبكر في سبعينيات القرن العشرين، تدافع عن "الدين" وصحة تطبيقه بالدرجة الأولى، بقدر ما تستند إلى الدين من أجل تحقيق هدف دنيوي طال انتظاره من العرب والمسلمين، منذ أحلام نهضتهم الأولى في بدايات القرن التاسع عشر. 

لقد كانت هذه التنظيمات -بكلمات أخرى- تدّعي أنها تستند إلى الدين كي تستجلب لهذه الأمة المهزومة عسكرياً وحضارياً، نصراً من الله؛ فليس ممكناً استعادة مكانتنا الحضارية وقد سبقنا الغرب بمسافات فلكية، إلا بأن ينصرنا الله ويقف معنا. هكذا، فإن ما قالته تلك التنظيمات بتكثيف شديد: تعالوا ننصر الله كي ينصرنا الله! أما كيف ننصر الله، فباستحضار ما يتخيلونه عن التاريخ والماضي الذي كان فيه المسلمون أعزة منتصرين!


هذا معناه أن التركيز على أن أفعال تلك التنظيمات "ليست من الإسلام"، كما يقول الرد الديني التقليدي عادة، ليس مفيداً، لأنه ليس جوهر القصة. الرد المفيد هو ذاك الذي يقول إن تلك الأفعال لن تساعد في نهضة الأمة ورفعتها، بل ستدفعها إلى مزيد من التأخر والتخلف.


هكذا، فإن المجال الحقيقي لمكافحة الفكر المتطرف، ليس الخطاب الديني الذي لا يضرب عميقاً في جوهر المشكلة ودوافعها، بل الخطاب الثقافي الفكري الذي يحدّث الناس عن النهضة ومتطلباتها وشروطها. فقد كسب ذلك الخطاب الإرهابي المتطرف ما كسبه من مساحات في ثقافتنا العربية المعاصرة، خلال السنوات الأربعين الفائتة، لأنه كان يحدث الناس عن الانتصار ويذكرهم بأمجاد التاريخ، فيما يرد الخطاب الديني بحديث عن الجنّة والنار والثواب والعقاب، وبكل غيبي لا علاقة له بجوهر القضية التي تطرحها تلك التنظيمات المتطرفة.


الدول العربية الأخرى التي حاربت فيما مضى تلك التنظيمات المتطرفة بخطاب ديني تقليدي، ابتداءً من مصر التي ظهرت منها تنظيمات ما سمّاها الإعلام يومها "التكفير والهجرة"، مروراً بـ"القاعدة" ووصولاً إلى "داعش"، لم تعالج (الدول) الأمر من زاوية الأزمة الحضارية التي يعيشها العرب، فلم تُحسن الرد على تلك التنظيمات. والحال أن الاكتفاء اليوم بالرد على "داعش" بخطاب عن سماحة الإسلام واعتداله، إنما هو ردّ في مساحة أخرى غير تلك التي يدور حولها الخلاف مع "داعش"، وغير تلك التي يجب أن تدور فيها الحرب الفكرية مع "داعش".


على هذا، فإن الذين يُفضّل أن يتولوا إدارة المعركة الفكرية مع هذه التنظيمات التي أفسدت الدنيا قبل أن تفسد الدين. هم المفكرون والمثقفون التنويريون، الذين يملكون وعياً حضارياً وفهماً دقيقاً وعميقاً لماهيّة الأزمة التي تعانيها الأمة؛ فاستعمال تلك التنظيمات الإسلام مبرراً لتصرفاتها لا يعني أن المعركة معها صارت دينية. كما أن تجارب مختلف الدول العربية في معالجة هذه المشكلة معالجة دينية، على مدار أربعين سنة، لم تفضِ -للأسف- إلى محاصرة تلك التنظيمات الإرهابية وتجفيف أفكارها المتطرفة، وهذا يؤكد أن المعالجة الدينية المجردة ليست مفيدة، لأن الدين بذاته ليس جوهر المسألة!