عليهم بوكيل ...! بقلم م. عبدالرحمن
نستقبل هذه الأيام ذكرى مولد خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم متصادفة لأول مرة منذ أكثر من 400 عام مع ذكرى ميلاد المسيح عيسى عليه السلام عند أتباع الديانة المسيحية، ولعلها بذلك تكون فرصة لنا جميعاً للتفكر فيما بين أيدينا.
فنحن نرى ونسمع منذ فترة ليست بالقصيرة من يخرج علينا بقول صحيح للنبي صلى الله عليه وسلم قاله لعدد من كبار زعماء قريش يوماً: ((يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح))، والغريب أن هؤلاء يعممون معنى الحديث على كل قريش، ولو كان كذلك لما ترك النبي واحداً منهم على قيد الحياة بعد فتح مكة وقال لهم اذهبوا فانتم الطلقاء، تأكيداً لقول الله عزوجل في الآية 107 من سورة الأنبياء: {{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}} رحمة لكل العالمين بكل أديانهم وأشكالهم وألوانهم، ليأتي بعد ذلك من يردد "على طريقته" حديث الرسول بأنه لم يبعث إلا بالسيف رحمة للعالمين، ونحن هنا لا ننكر وجود هذا الحديث أصلاً بالمناسبة، ولكننا ننكر فهمه من ناحية ضرورة قتل كل من يخالفنا من البشر، فلا يمكن أن يستوي هذا بحال من الأحوال مع ما ثبت في الصحيح عن رسول جاءه أعرابي ليقول له أقلني بيعتك مرتين ورفض الرسول حتى خرج الأعرابي من عنده ولم يقتله لأنه إرتد عن بيعته له، ولا أن يستوي هذا مع قول الله عزوجل في الآية 256 من سورة البقرة: {{لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم}}، إذن فالسيف بالحديث هو للدفاع عن النفس ودفع الظلم عن المظلومين، وليس لنشر الظلم والتعدي على الآخرين وقتلهم لمجرد اختلافهم معنا في الدين والنهج، وإلا لماذا لم يكن أول أمر للنبي هو "أقتل" بدلاً من "إقرأ" إذن !!
والحقيقة أن هناك من ينصبون أنفسهم مكان الخالق عزوجل ويتبعون نهجاً يخولهم محاسبة كل البشر حتى على ما بدواخلهم، فإما أن تكون مثلي وإلا فلست أكثر من ذبيحة تنتظر موعد نحرها، أو على الأقل فأنت تستحق الدعاء عليك ولعنك ليل نهار لمجرد إختلافك عني متناسين أن كل إنسان محاسب على خياره لا خيار غيره في النهاية، مع العلم أن خالقنا عزوجل لم يأمرنا في أي آية من آيات القرآن الكريم البالغ عددها 6236 ولا حتى بالدعاء على من يختلفون عنا بالدين فما بالك بقتلهم، بل جاء في الآية الثامنة من سورة الممتحنة:{{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}}.
إذن فالمأساة الحقيقية التي نعيشها ليست فقط في قتالنا لبعضنا البعض وتشريع قتالنا لغيرنا لمجرد اختلافهم عنا كما يفعل البعض، ولكنها قبل ذلك في قتلنا للمفاهيم التي جاء بها رسولنا محمد عليه السلام ودافع عنها وتحمل صنوف الأذى من أجلها أكثر من 20 عاماً، ولعل ذكرى ميلاده صلى الله عليه وسلم تكون مناسبة لنا لنذكر أنفسنا بها من جديد.
وكذلك الأمر بالنسبة لكل أبناء الديانة المسيحية ممن يعيشون معنا جنباً إلى جنب منذ مئات السنين في معظم بلدان الوطن العربي، أو حتى ممن هم من بلاد غير عربية، فبرغم إختلافنا معهم في العقيدة والدين وحتى في مولد عيسى المسيح عليه السلام هل كان صيفاً أو شتاء إلا أن هذه الذكرى لعلها تكون سبباً لهم أيضاً لتذكر ما تحمل عليه السلام من أعدائه من صنوف الألم والعذاب في سبيل نشر رسالة الحق عزوجل، فهذا ديدن الأنبياء عليهم السلام أجمعين يحتملون العذابات والألم ليرتاح البشر من بعدهم.
ولمن يستكثر على نفسه بعد كل هذا أن يدعو بالرحمة والهداية والسلام لجميع البشر وترك قرار ذلك للخالق عزوجل، وينزعج لوجود من يختلفون عنه بالديانة أو الفكر أو العقيدة أو المذهب أو حتى باللون أن يتذكر على سبيل المثال أن في العالم من المسلمين من لهم أمهات أو زوجات مسيحيات أو يهوديات، فهل يجب على هؤلاء التجهم في وجه أمهاتهم أو زوجاتهم وعدم تهنئتهم في مناسباتهم أو الدعوة لهم بالرحمة والهداية بل وعليهم الدعاء عليهم بالويل والثبور بدل ذلك ليل نهار من باب البر بهم !!
ونذكر هؤلاء أن فتح مصر بغالبيتها المسيحية كان في سنة 21 للهجرة 642م، وأن المسلمين الذين فهموا دينهم حق الفهم وقتلوا نار الكراهية والاقصاء بداخلهم لم يبادروا لقتل أهل مصر من المسيحيين بل قلبوا غالبيتها إلى مسلمة بالحكمة والمحبة والموعظة الحسنة ولكن بعد ستة قرون من فتحها !
وإسمحوا لنا في النهاية أن نختم هذه السطور التي إخترنا أن تأتي متزامنة مع ذكرى مولد نبي الرحمة والسلام عليه أفضل صلاة وأتم تسليم وختاماً لمقالاتنا للعام الميلادي 2015 بتذكير أنفسنا بأن الله لم يجعل لأحد وكالة أو سلطة على قلب أحد من البشر فقال تعالى في سورة الغاشية:{{فذكر إنما أنت مذكر (21) لست عليهم بمسيطر (22) إلا من تولى وكفر (23) فيعذبه الله العذاب الأكبر (24)}}، وقال عزوجل في سورة الأنعام: {{اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين (106) ولو شاء اللَّه ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل (107) ولا تسبوا الذين يدعون من دون اللّه فيسبوا اللَّه عدواً بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون (108)}}
فاذا كان الخطاب لخاتم الأنبياء محمد عليه السلام جاء "وما أنت عليهم بوكيل" فهل هناك من هو أولى بذلك بيننا !!
نسأل الله أن يملأ قلوب جميع البشر قبل أعوامهم وأيامهم محبة وسلام وفرح وسعادة، مسلمين كانوا بكافة مذاهبهم أو غير مسلمين من مسيحين أو يهود أو حتى ملحدين، وأن يكفينا الله جميعاً كيد الكائدين وظلم الظالمين ويبعد عنا كل الشرور والويلات والقتل والحروب.