شادي غوانمة يسبر الواقعية ويحلق في التكنيك

قدمت هذه القراءة النقدية في حفل افتتاح معرض التشكيلي شادي غوانمة في الجمعية العربية للفكر والثقافي في مدينة الرمثا السبت 19/12/2015م)

أعتاد المتلقي للفن التشكيلي الأردني والمتابع المتمعن أن يلاحظ تطورا فنيا في أدوات وتكنيك وفكرة ورؤى وألوان وأشكال الفنان شادي غوانمة، الذي اشتغل في معارضه السابقة على تجارب فنية تشكيلية في فضائها البصري والتي شغلت حيزا إبداعيا في فضائها الأردني والعربي والعالمي.


عادة ما يأتي المعرض الفني نتاجا لمرحلة تجريبية إبداعية يعيشها الفنان بشكل عام ويعيشها التشكيلي شادي غوانمة بشكل خاص، فالمعرض الفني شبيه في تجربته لديوان الشعر الذي يمثل مرحلة ما في حياة الشاعر ولا نبتعد كثيرا إن قلنا أن المعرض الفني يشبه مجموعة قصصية أو رواية لزوسكند (العطر) أو روايات باولو كويلو أو واسيني الأعرج، فإذا جاء المعرض الفني على شكل مجموعة قصصية في مرحلته التجريبية فإن التطور في رؤى الفنان مشكوك فيها ولو تميزت لوحاته وقصصه بالتكنيك العميق القوي، فعلى المعرض الفني أن يشكل لنا مشهدا مسرحيا، والأدق من ذلك أن يشكل المعرض الفني رواية سياسية أو اجتماعية، رواية تخوض في التاريخ أو اللاهوت أو الحب والحياة كما فعلت إيزابيل إليندي في روايتها صورة عتيقة، أو ما فعله حنا مينا الروائي السوري في رواية المصابيح الزرق التي ما زالت في مجملها تشكل معرضا فنيا إبداعيا بقلم الروائي حنا مينا.


وهذا ما يأتينا به شادي غوانمة، حيث جاءنا بمعارضه السابقة بمجموعات قصصية، تشكلت من قصص متفرقة تعددت منها التقنيات والرؤى، لكنه في معرضه السابق والذي أخذ أسم "نساء” كان شادي غوانمة يكتب روايته الأولى مختبرا عالم النساء البصري وربما تساءل كما تساءل ميل جيبسون ” ماذا يردنَّ النساء” وقد أطلقت هذا التساؤل الروائية الأردنية الشابة ربى قنديل في روايتها”ازدواجية الزمن”.


فالاختبار مسوغ لدلالات الرؤيا بأبعادها وإشكالياتها وجدلياتها وصورها النمطية، التي يختبرها الشاعر والفنان والروائي وعالم النفس والاجتماع، يختبر هذه الصور النمطية أو التي فهمت من الدين بشكل نمطي دون اختبار أبعادها.


وعلى أي حال فقد أختبر الأدب والفن السينمائي والمسرح جوانب متعددة للمرأة وأظهر للمرأة صورة نمطية تقليدية كما المرأة العاشقة التي تبيع شرفها في السينما العالمية باسم الحب "آنا كارنينا”، أو صورة المرأة التابعة في المجتمعات التقليدية، حيث لا تعرف المرأة إلا واجباتها لأن المجتمع أنساها حقوقها أو تناستها قصدا أو عملت الذاكرة على طي تلك الصورة الإيجابية للمرأة على مدى التاريخ، فالمرأة في العصور الحجرية القديمة كانت تمثل الآلهة والخصب والجمال والعطاء، وفي عصور الإقطاع صارت المرأة سبية يأخذها الغالب من المغلوب.


ما الذي أختبره شادي غوانمة في معرضه الثاني "نساء” بين الواقعية والتكنيك؟


للإجابة على السؤال ما الذي أختبره الفنان شادي غوانمة في معرضه (نساء2) نجد:-


1-التماسك النصي:
يتعامل النقاد مع النص المكتوب بأي لغة كانت على أنها نص بصري أو سمعي وما يميز النص الجيد التماسك النصي، وهذا ما حققه شادي غوانمة في معرض (نساء 2) الذي تطور عن معرض (نساء 1) من حيث التماسك النصي إذْ نجد القيمة الفنية العالية في:


أ‌- التكوينات الفنية:
والتي تشكل علامة جمالية بين الكتلة والفراغ وعلاقة جمالية بين عناصر العمل الفني، مما يظهر تماسكا نصيا بصريا من خلال التكوينات الفنية القائمة على المثلثات، والمثلثات المتقاطعة مما يشكل بعدا هندسيا يعمل من خلال القطاع الذهبي على تجسيد التماسك النصي في التكوين الفني.


ب‌- الكتلة والفراغ:
وهو من العناصر الأساسية في تشكيل التماسك النصي البصري والذي يظهر علاقة العناصر المكونة للعمل الفني في لوحة الأيدي والتي تتألف من خمسة عناصر تبدو منفصلة في فراغ أزرق غامق قليلا، حيث شكلت حركة الأيدي المجردة باتجاه الشكل البشري والتفاحة والتي قد تعني الخطيئة أو تشير إليها، أهي تفاحة آدم أو شجرة حواء، إذ تظهر هذه اللوحة تماسكا نصيا بصريا مذهلا ما بين عناصر التكوين الفني التي لا ترتبط بالتلامس أو التداخل أو التراكب ولكنها بمضمونها تشكل علاقة جمالية في تصميم مفتوح بين الكتلة والفراغ يصعب ضبطها بيد فنان آخر.


ج‌- الخلفية:
قد تكون خلفيات اللوحات في معرض (نساء 2) أهم المرتكزات الجمالية في التماسك النصي البصري للمعرض الفني الذي أقامه شادي غوانمة إذ تتراوح الخلفيات بين مساحات صافية بلون واحد تضم عناصر اللوحة في بعد بصري استثنائي.


ومن جهة أخرى أضاف الفنان شادي غوانمة اسلوب الطبقات اللونية في خلفية العمل الفني، حيث وصلت إلى ثلاث طبقات بين الحار والبارد، بين البرتقالي والأحمر ويفصل بينهما طبقة بيضاء تنساب تماما مع خلفية اللوحة الرمادية الفاتحة، كما وظف في لوحات (نساء 2) علاقة جمالية بين طبقات متعددة من اللونين الأصفر والأخضر تماسكا نصيا بصريا مدهشا.


حيث وصلت به الجرأة الفنية إلى معالجة الخلفية بضربات جريئة من الفرشاة تبدو عشوائية لكن تماسكها الجمالي مع ألوان الشكل أو (البورتريه) أو (الفيجر) أعطى مسوغا كبيرا للتماسك النصي، وعلى الرغم من جمال أعماله الفنية إلا أن التماسك النصي البصري في معالجة الخلفيات من أجمل ما قدم الفنان شادي غوانمة.


2- اختيار الأشكال والوجوه:
كما اختبر شادي غوانمة التماسك النصي، اختبر الأشكال في تقنيات فنية دالة على حرفية التشكيل المبدع، حيث امتازت الأشكال بما يلي:-


أ‌- الغاء التفاصيل:-
اشتغل الفنان شادي غوانمة على وجوه شخصياته النسائية بطريقة لونية حداثية متجاوزا البعد التصويري الواقعي إلى البعد التخييلي الإبداعي في رسم الوجوه، حيث أظهر جمال نسائه في معرضه بلمسات لونية تشف عن تفاصيل الوجه وتكشف مفاتنه الجمالية والروحية، ولكنها تخفي أبعاد الوجه الفيزيائية، لينطلق بحرية الفنان المجرب إلى عالم شادي غوانمة الخاص ليعيد تشكيل الواقع برؤيته الجمالية.


ب‌- الزخرفة اللونية:-
وعلى الرغم مما قدم شادي غوانمة من جرأة في معالجة الوجوه والخلفيات إلا أنه كان أكثر جرأة حين جرد الأجسام وبسط تفاصيلها لتبقى نابضة بالحياة مضيفا لها زخرفات لونية في الملابس التي تضم نساءه في دورة جمالية تتقارب من عالم الزخرف.


ليثير فينا السؤال كيف استطاع شادي غوانمة أن يجمع بين تقنيتين فنيتين في عمل واحد تبدوان متناقضتان؟ لكن ألوان شادي غوانمة وفرشاته طوعت هذه العلاقة في بيئتها الفنية الجمالية لينتظم الزخرف الدقيق مع المساحات اللونية الشاسعة في الخلفية.
فالحديث عن معرض (نساء 2) يستحق المزيد من الدرس النقدي لما يقدمه شادي غوانمة من تجريب فني تناول فيه التماسك النصي والوجوه المجردة والطبقات اللونية في الخلفية.


وللناقد أن يبحث في كثير من العلاقات الجمالية التي قدمها شادي غوانمة في معرض (نساء 2) حيث تبرز هذه الدراسات التجريدية النابعة من بعد واقعي شكل مرحلة في تجربة شادي الفنية لينتقل إلى عالم الرؤى والتخييل وسبر الجماليات واختبار جماليات جديدة في كل مرحلة فنية يخوضها التشكيلي شادي غوانمة.


ولا أقول بأن شادي غوانمة قد وصل مبتغاه بعد بل فتح أبوابا جديدة للتجريب الفني والتماسك النصي سابرا الواقعية متجاوزا متطلباتها إلى مرحلة أخرى كلما حلق في تقنياته محققا عالم شادي غوانمة الذي سيقوده حتما في ( نساء 3) أو أي مشروع آخر إلى تحليق جديد في أدواته وخاماته ليتجاوز نفسه من جديد.


وهذا دأب الفنان الذي يعيش الفن حبا وحياة حيث يختلط دمه مع ريشته في لوحة تكسر المتوقع وتحمل التخييل محلقة في الفضاء تنظر من أعلى لتسبر جهات الكون وجمالياتها وتقنياتها في ريشة الفنان شادي غوانمة.