على فكرة

في كل لحظة نعيشها تنبعث في عقولنا فكرة أو اكثر بعضها يضيء جوانحنا ويجعلنا نقفز من أماكننا نشوة وابتهاجا. بعض الأفكار التي تنتابنا مخيفة ومظلمة تبعث الرعب في نفوسنا. في الصفوف الأولى يصف المعلمون بعض طلابهم بأن أذهانهم متوقدة، في إشارة أن الطالب يفكر فيما حوله ويأتي بحلول ومقترحات وتصورات خلاقة.
في أوروبا التي حرمت الفكر والبحث والنقد لقرون، استطاع البعض أن يغامر ليقدم أفكاره واستنتاجاته؛ فقدّم جاليليو وكوبرنيكس نظريتيهما عن كروية الأرض وعرض ديكارت منهجه الجديد الذي أبرز فيه أهمية الشك في الوصول إلى الحقيقة، وطرح العشرات منهم أسئلتهم التي أنارت فضاء أوروبا المعرفي ومهدت لانتقال المجتمع من الظلام إلى التنوير.
الكثير من الأفكار التي تتولد في أذهان الناس لا مكان لها في الفضاء العام ولا سبيل لبحثها أو مناقشتها لاعتبارات سياسية ودينية واجتماعية، لتطفو على السطح أفكار تزين الواقع وتبدي إعجابها به. بعض من تشتعل في رؤوسهم أفكار جديدة يصبحون مصادر قلق لمن حولهم؛ فإما أن يهاجروا أويصابوا بمستوى من مستويات الجنون. البعض يحاول الهروب؛ فليست أم كلثوم الوحيدة التي تحاول الهروب من الأفكار "حاولت أهرب من الأفكار" فكلنا يمارس الهروب بشكل أو آخر.
عند كل مرة تتهيأ الطائرة للإقلاع وتتلى آية "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون"؛ تقفز إلى ذهني فكرة مخيفة أسارع الى طردها ولا تلبث أن تعاود الظهور مرات ومرات. وعندما تتحدث الأخبار عن عاصفة شمسية تؤثر على شبكات الاتصال وربما حرارة الأرض ينتابني شعور آخر يدفعني لأوقف التفكير والانشغال بقضايا لا أهمية لها لكي لا أتوقف مطولا عند الخبر وأفكر في تداعياته.
وفي الأيام التي يجري فيها الحديث عن التغير المناخي نتساءل ماذا لو ارتفت درجات الحرارة أو انخفضت عشر درجات أو اكثر عن معدلها.
نعرف جيدا أن الثابت الوحيد هو التغير، لكننا لا نعرف اتجاه التغيير فنستعين بالتسليم إلى مشيئة الله لدرجة أننا ابتدعنا شعرا وحكما وأقوالا اصبحت مأثورة "نمشي على ما قدر الله ...واللي كاتبه ربك يصير".
اليوم ونحن نعيش في وسط تتأجج فيه نيران الصراع تنتابنا أفكار كثيرة نحاول أن نطردها أو نبحث عن كل ما يجعلها تبدو غير معقولة. بعض الأفكار تبدو كالكوابيس والبعض الآخر يبقى يدور في الأذهان بالرغم من كل حيلنا الرامية لتسخيف الفكرة والتقليل من شأنها.
السؤال الأكثر حيرة يتعلق بالفوضى التي نعيشها وغياب المنطق عن الكثير مما يدور حولنا من مشاهد وأحداث، فمن ناحية تجد عقولنا صعوبة في استيعاب أن عددا من المقاتلين الذين اجتمعوا أو جمعوا في شرق سورية وغرب العراق ما يزالون يتمددون رغم التهديدات التي أطلقتها القوى العظمى منذ أعوام. والفكرة الأخرى تتعلق بهل تحتاج هذه القوة بدائية التنظيم والتسليح كل هذه الأحلاف التي تضم في عضويتها نصف سكان العالم، وثمانين بالمئة من موارده. وليس بعيدا عن هذين السؤالين سؤال آخر يتعلق بماذا لو عجزت جهود التحالفات القديمة والجديدة في القضاء على داعش ونجح شعارها بأنها باقية وتتمدد. الاسئلة المطروحة تخيف السائل وتثير مئات الأسئلة عن حجم الفوضى التي تسود عالما قال إن لديه نظاما جديدا.
اليوم تراجعت في كثير من بلداننا أولويات الإصلاح والتنمية والنهوض لحساب التعاطي مع تهديدات أمنية يفتقر الناس لمعرفة الكثير من الحقائق عن تنظيمها وتمويلها وأهدافها والمواقف الخفية للقوى العظمى والمتوسطة منها ومن برنامجها تعدد الأحلاف يخيفنا ويولد في نفوسنا الريبة حول جدية البعض في اجتثاث الخطر الذي أصبح يهدد كل القيم التي سعت البشرية إلى صيانتها عبر آلاف السنين.