جدلية العلاقة بين المثقف وحركات الإصلاح

جدلية العلاقة بين المثقف وحركات الإصلاح

بقلم: د. آية عبد الله الأسمر

 

إن الدارس للتاريخ الإنساني يعلم أن كل المجتمعات البشرية تمر بمراحل وعصور، إما أن تزدهر فيها هذه المجتمعات حتى تبلغ ذروة الازدهار والتقدم، في كافة الميادين والمجالات كمرحلة أخيرة تسبق بداية الاندحار والانهيار، أو أنها تنزلق في غياهب الظلام والجهل والتخلف والرجعية، حتى تصل إلى مرحلة التغلغل في الحضيض والانسحاق في القاع أيضا على جميع المستويات، كمحطة أخيرة تسبق لحظة اليقظة والنهضة والتنوير.

لا أريد الخوض في تفاصيل مراحل عصر النهضة الإسلامية والخلافة العثمانية والنهضة الأوروبية، والتي تشترك جميعها في مرورها بفترات ازدهار وقوة وعنفوان وكذلك فترات تأزم وانحطاط وتهاوي، ذلك أن جدلية الصراع الطبقي (قوانين الديالكتيك) التي قال بها كل من هيجل وماركس وإنغلز تحتم التطرف في موضوع محدد حتى ينقلب هذا الموضوع إلى الطرف النقيض له، ذلك أن كل ظاهرة تحمل بين جنباتها بذور فنائها، كالوصول إلى قمة الرأسمالية التي ستتحول بدورها إلى الاشتراكية فالشيوعية.

  ما يهمني من هذه المقدمة المقتضبة هو المرحلة الحالية التي تمر بها الأمة العربية، هذه المرحلة التاريخية الحرجة التي وصلت في تأزمها وهبوطها إلى القاع الحضاري، على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري والاجتماعي والعلمي والفكري والثقافي، ما نمر به اليوم ومنذ عشرات السنين هو سلسلة متواصلة ومتشابكة من الحلقات التي تشكل حتى يومنا هذا مرحلة واحدة بالمفهوم التاريخي، ذلك أننا كنا وما زلنا نعاني من مخاض عسير نتخبط في أحشائه باتجاهات جميعها خاطئة بالضرورة؛ لأنها جميعها تؤدي إلى نهايات مغلقة أو تفضي –في أحسن الأحوال- إلى نقطة البداية.

بناء على ما تقدم فمن المتوقع أن تنتهي مرحلة الانحطاط التي يشهدها العالم العربي بعد كل هذا الانغماس في الوحل، لتبدأ مرحلة تسلق وصعود وازدهار ستكون حتما شائكة وملتوية وليست بأي حال من الأحوال سهلة أو ممهدة ممثلة بذلك طبيعة الإصلاح وضروراته، إلا أن حركات الإصلاح في العالم ككل وعلى مر العصور التاريخية ولدى جميع الحضارات المتعاقبة مرهونة بشروط من الواجب أن تتحقق كأساس يكفل نجاح تلك الحركات الإصلاحية:

أولا: لا نستطيع أن نشمل في العملية الإصلاحية أجزاء محددة من الدولة ونستبعد أركانا أخرى أو نستثنيها من الحركة الإصلاحية، بمعنى أن حركات الإصلاح لابد أن تشمل جميع أسس وأركان الدولة بما يفرضه هذا من عملية إصلاح جذري (راديكالي)، يضم أركان الإصلاح الرئيسية المتمثلة في الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني والثقافي والعلمي، لا يمكن لطبيب الأسنان مثلا أن يعالج ضرس من النخر والسوس ويتغاضى عن مرض لثوي قد ينتهي بسقوط الضرس ذاته وفقدانه، أو لا يعير انتباها لبقعة بيضاء في النسيج المخاطي للفم قد تحمل احتمالية تكونها من التهابات فطرية أو حتى خلايا سرطانية! 

ثانيا: حركات الإصلاح لا تتم بشكل عشوائي أو بطريقة كلية، بل تحتاج إلى المرور بمراحل زمنية تتعاقب وتتواصل، بحيث يؤدي التراكم الكمي لخطوات الإصلاح إلى تغيير نوعي في الدولة نلج من خلاله إلى نتائج وإفرازات المشروع التنموي، وهذا التدرج يحتاج منا إلى معرفة الركائز الأساسية التي يتوجب علينا أن نبدأ بها، ومن ثم نحدد المسار الذي نتجه فيه على شكل خطوات وحلقات تبدأ من السابق وترتبط باللاحق، كهرم إبراهام ماسلو لحاجات الإنسان الذي يستند في قاعدته على حاجات الإنسان الفسيولوجية متدرجا حتى بلوغ القمة لتحقيق الذات، بحيث لا يمكننا الانتقال من مرحلة إلى المرحلة التي تليها قبل إشباع حاجات المرحلة السابقة.

ثالثا: ولعل هذه النقطة هي نقطة البداية وأهم شرط أساسي وركن جوهري في حركات الإصلاح التاريخية والعالمية، على عاتق من تقع مسؤولية حركات الإصلاح؟

إن المولّد الفعلي والمحرك الديناميكي لأي حركة إصلاحية هو بالضرورة مثقفيها ومفكريها، ذلك أن المثقف يتوجب عليه أولا أن ينطلق من حدود شرنقته الثقافية الذاتية إلى آفاق الفكر الإنسانية والعالمية والعلمية، حتى يتمكن من بناء فكر محدد خاص به وبلورة قيمه الفكرية والحياتية، ومن ثم ينبري للدفاع عن تلك الأفكار والمبادئ متكئا في جدله على ركائز علمية كيميائية وفيزيائية وطبيعية وفلسفية وكذلك دينية وتاريخية، تمكنه من خوض معركته النهضوية على دعامات قوية وصلبة لا تستند على تجارب ضحلة خاصة، أو تحليلات قاصرة أو أفكار وهمية مخطوءة أو ناقصة أو مشوّشة ينقصها المنطق والحجة والإثبات العلمي والدليل العملي، والأهم من هذا أن لا يتطلع المثقف بوصفه إصلاحي إلى مناصب وغايات ومكتسبات شخصية يسعى إلى تحقيقها من وراء فكره وعلمه، بل يتوجب على هدفه أن يكون علميا إصلاحيا مبدئيا بحتا غايته خير الإنسانية وثمرة الإصلاح.

لا نستغرب إذا أن حركات الإصلاح على مر التاريخ قامت على أكتاف مثقفيها ومفكريها وفلاسفتها وعلمائها، نأخذ على سبيل المثال لا الحصر فلاسفة اليونان كسقراط وأفلاطون وأرسطو وأوغاستين، وعلماء النهضة الإسلامية أمثال  الغزالي وإبن باجة وإبن رشد والشيرازي والكندي والفارابي، وإبن الطفيل وإبن سينا وإبن الهيثم وإبن خلدون، ومن تلاهم من مفكرين في ظل الخلافة العثمانية وخلال النهضة الأوروبية وأعقابهما، أمثال محمد عبده والطهطاوي والأفغاني والكواكبي والعقاد والمازني، ورشيد رضا وبطرس البستاني واليازجي والريحاني وشبلي شميل ومارون نقاش وجرجي زيدان وفرح أنطون، ورواد النهضة الأوروبية كرينيه ديكارت وإيمانويل كانت وبيكون وفولتير وإسبينوزا وروسو، وجون لوك وهيجل وميرابو ونيتشة وشوبنهارو، وليوناردو دافنشي وهيدغر ولورنزفالا وميكافيللي ودانتي وسارتر وغيرهم.

نلاحظ من كل ما تقدم أن الحركات الإصلاحية تقوم أساسا على الفكر والفلسفة المدعمتين بالعلم والعلوم والمعرفة، وكذلك الإلمام بصورة كلية بالتاريخ وعبراته ودروسه بالإضافة إلى الإطلاع على الحاضر، بوصفة نتاج تراكمي للماضي وإفرازاته وركيزة تمثل نقطة انطلاق للمستقبل ومتطلباته، مما يتطلب منا كمثقفين ومفكرين أن نبني حركاتنا الإصلاحية على مقاربة توفيقية بين ما توافر لدينا من خبرات وتراث وقيم حضارية إسلامية وعربية، وما يدور حولنا من انفتاح وتطور وتقدم علمي وتقني وتكنولوجي، مع الأخذ بالاعتبار مسألة فهم واستيعاب عناصر ومقومات وخصائص وخصوصيات الحضارات المتباينة، وهذا مرده إلى أن عملية الإصلاح تتطلب منا منهجا نظريا وبرنامجا علميا وأيديولوجيا واضحة، لا يمكن أن نتبناها أو نستوردها بمعزل عن سياقها التاريخي وظروفها الثقافية والزمانية وجغرافيتها المحددة، لنعلّبها في قوالب نحاول الزج بها عنوة في تجربتنا الحضارية بخصوصية مكوّناتها المختلفة، كذلك تحتاج عملية الإصلاح إلى آليات ووسائل تحوّلها من إطارها النظري الصرف إلى عملية واقعية ممكنة التحقيق، من خلال خطوات مدروسة وإستراتيجية واضحة لا يمكننا تطبيقها عمليا بالركون إلى وسائل قديمة تقليدية عفا عليها الزمن، بل نحتاج إلى المعارف والعلوم والتكنولوجيا التي تتماشى مع روح العصر ومتطلباته.

نحن إذا أمام مثقف تحوّل بالممارسة إلى مفكر كوني وعالمي يهدف أساسا إلى تنمية مجتمعه بكافة شرائحه، من خلال خطاب فكري ثقافي وسياسي مقنع وفاعل ومجدي وعملي، وهذا لا يتأتى إلا من خلال إعمال الفكر وتكريس الجهد وتوحيد الأهداف الأساسية الكبرى المشتركة، بحيث تتمكن هذه الحركات الإصلاحية من التغلغل في الشارع الشعبي بأفكارها وفلسفاتها وتوجهاتها وأيديولوجياتها ومعتقداتها،في سبيل توجيه الرأي العام ككل نحو الحرية والكرامة والديمقراطية والعلم والمعرفة والتطور والعدالة والمساواة وغيرها من الأهداف التي قد تفرض نفسها كأولوية وفقا لمتطلبات المجتمع بناء على مرحلة معينة ومعطيات محددة.

من الجدير بالذكر أن مسألة تنوّع هذه المشاريع الإصلاحية وتياراتها ضرورة حتمية في أي مشروع إصلاحي، سواء من ناحية الإطار النظري والاتجاه الفكري أو على مستوى التطبيق والأولويات، طالما أن الهدف الأساسي واضح ومحدد، ومن شأن هذا الاختلاف والتنوع أن يثري المرحلة من خلال توجيه النقد ومن ثم الرد على هذا النقد، وما يولده هذا التلاقح الفكري من عمليات تمحيص وتدقيق في المشاريع الإصلاحية وبرامجها وأهدافها وأدواتها بما يعود بالنفع على عملية النهضة والإصلاح والتطور ككل، فالنخب الفكرية وطلائع المثقفين ملزمون بأن يكونوا منتجين للمعرفة، وقادرين على الإمساك بزمام الثقافة المجتمعية وتحديد مساراتها ومن ثم اتجاهات تلك المسارات وتقاطعاتها،  حتى يتمكنوا من صياغة الأبعاد الفكرية الأولية التي ستنطلق منها حركة الإصلاح في المجتمع ككل ثم تعبئة القوى الشعبية بهذه المضامين ومن ثم تجذير هذا الفكر في الوعي الجمعي وصولا إلى مطالب الإصلاح السياسي والاقتصادي.

لا يمكن للنهضة والتنوير والإصلاح أن يخلقوا على أرض الواقع بدون الدور المركزي والاستثنائي الذي تلعبه الحركة الثقافية الفكرية في تحريك المجتمعات؛ لأن بناء الدولة المدنية الحديثة يستند إلى قوى مجتمع مدني حر ومؤهل لبحث قضاياه الوطنية الرئيسة وتحليلها وترتيب أولوياتها وتصنيفها، سواء في الحقل السياسي أو الاجتماعي وكذلك على الصعيد الوطني والقومي.