جذب الاستثمار: مناخات واجواء واجراءات

تحضرني كلما فكّرت في الكيفية والطريقة والأسلوب التي تجذب إليها وتغري فيها الدول الناجحة المستثمرين للمشاركة في مشاريعها وخططها التنموية، كلمات جلالة الملك عبدالله الثاني في لقاءاته واحاديثه للفعاليات والقيادات الحكومية والادارية والاقتصادية في القطاع العام وامام مجلس الوزراء والفريق الاقتصادي، وبخاصة تشديد جلالته على اهمية توفير قوانين واجراءات وبيئة جاذبة للاستثمار، بلا تعقيدات او بيروقراطية، بل إن جلالته وجّه في احد اللقاءات نقداً لاذعا لأولئك الذين لا يُقدمون المصلحة الوطنية العليا على المزاج الشخصي او الرغبة في العرقلة وتعقيد الامور امام المستثمرين، وكان رئيس الوزراء الدكتور عبدالله النسور يكرّر دعوة جلالته في اجتماعات ولقاءات وتصريحات لاحقة، الا ان الغريب في كل ما يجري، ان الامور تبقى على حالها واذا ما طرأ عليها اي تغيير، فانه يكون تغييرا مؤقتا لا يلبث ان يعود الى سابق عهده وتستمر اجراءات العرقلة وتكريس البيروقراطية مترافقة، للاسف، مع قرارات حكومية تسقط على المستثمر (القديم والجديد) من فوق، مثل رفع اسعار الكهرباء والخدمات الاخرى وخصوصوا الضرائب وآخرها قانون الرسوم على ترخيص المركبات والسواقين، دون اي اعتبار لانخفاض اسعار البترول والغاز ولا لتباطؤ النمو ولا للركود، سواء في السوق المحلي ام الخارجي، ودائما ما تتذرع الحكومة بخسائر شركات الكهرباء وكأن هذه الخسائر ناتجه فقط عن "الانتاج" وليس عن بيروقراطية الشركات ذاتها والترهل الاداري فيها وتراكم اعداد البطالة المقنعة وانعدام التخطيط او سوئه، فضلا عن ارتفاع رواتب المدراء والمستشارين وغيرها من الامور "والامراض" التي تُصاب بها الشركات وبخاصة الحكومية منها.


ما دفعني للعودة الى الكتابة عن هذا الموضوع، هو مقال مثير لفت نظري الى جُرأته وعلميته والارقام التي استند اليها في معرض حث بلاده "وجيرانها" على تبسيط الاجراءات وإضفاء المرونة العملية على قوانينها وسرعة البت في اصدار "تراخيص" الاستثمار والاهم من ذلك كله، انه استند الى تقرير اصدره البنك الدولي تحت عنوان (ممارسة الأعمال 2016). خاص باقتصاد اميركا اللاتينية، يوضح فيه ان معظم حكومات امريكا الجنوبية، تضع مزيدا من العقبات على بدء وتشغيل واغلاق الشركات، مقارنة بالصين او جارتها فيتنام.

ولان لغة الارقام تتفوق كثيرا ودائما على لغة الانشاء ومصطلحاتها حمالة الوجه والتفسيرات وهي في واقع الحال لا تقول شيئا، فانني اضيء هنا على بعضها علّها تُسهم في ايقاظ بعض مسؤولينا وتدفعهم لإعمال تفكيرهم والانطلاق من القواعد والمبادئ الصحيحة لادارة لاقتصاد ومفاهيم التنمية واصول الاستثمار، بعيدا عن القرارات المُتسرعة وتلك المزاجية التي لا تستهدف سوى "جلب" المزيد من الايرادات للخزينة، بصرف النظر عن (الجيوب) التي تُؤخذ منها هذه الايرادات وايا كانت عواقبها واثمانها الاجتماعية والتي تستهدف الطبقة الوسطى، والتي هي وكما يعلم الجميع المُحرك الاهم بل الاول للاقتصاد ودوران عجلة التنمية، وبغيرها يصبح كل حديث عن الاقتصاد والتنمية، مجرد كلام لا يساوي قيمة الحبر الذي اريق من أجله.
كاتب المقالة التي جاءت مُترجمة في صحيفة الاتحاد الاماراتية يوم 23/11 الماضي، هو الارجنتيني المتخصص في شؤون اميركا اللاتينية اندريس اوبنهايمر، والتي جاءت تحت عنوان مُستفز ولافت وصاخب "اميركا اللاتينية اكثر شيوعية من الصين" وهو هنا لا يدعو الى اعتناق الشيوعية كما يتبادر الى الذهن لأول وهلة، بل يتنقد الاجراءات البيروقراطية والمعقدة والطاردة للاستثمار، على عكس ما تفعله دولة يحكمها حزب شيوعي هي الصين واخرى هي فيتنام ذات العقيدة الشيوعية، باجراءاتها السريعة التي تفتح الطريق الى المستثمرين مقارنة بتعقيدات اميركا اللاتينية...

يقول الكاتب بالاستناد الى تقرير البنك الدولي المشار اليه اعلاه: يقيس التقرير اداء 189 دولة وفقا لتيسير ممارسة الاعمال في كل منها، ترتيبا من الافضل الى الأسوا، حيث جاءت الصين في المركز (84) وفيتنام (90) بينما جاءت البرازيل في المركز (116) والارجنتين (121) ونيكارغوا (125) وبوليفيا (157) وفنزويلا 186.

ثم يواصل: وكانت بعض الامثلة التي وردت في التقرير مُخيفة. فعندما يتعلق الامر بالخطوات القانونية اللازمة لفتح شركة جديدة على سبيل المثال، فإن المرء يستغرق اجراءً واحدا قانونيا في هونج كونغ او نيوزيلندا وثلاثة في فرنسا وستة في الولايات المتحدة بينما يستغرق (11) اجراءً قانونيا في الصين و(14) في الارجنتين و(15) في بوليفيا و(17) في فنزويلا. وبالقياس وفقا للفترة الزمنية، فإن المرء يستغرق ساعة واحدة لاستكمال الاستمارات اللازمة لفتح شركة جديدة في نيوزيلاندا، ويوما واحدا في هونغ كونغ، وستة ايام في الولايات المتحدة و(31) يوما في الصين و(35) يوما في باراجوي و (50) في الاكوادور و(55) في بوليفيا و (83) في البرازيل و (144) في فنزويلا.

ليس هذا فحسب بل اقرأوا ايضا: ليس من قبيل الصدفة ان العديد من بلدان اميركا اللاتينية تأتي من بين اكثر البلدان من حيث الفساد، وكلما زادت الاجراءات القانونية التي تحتاج اليها لبدء شركة، كلما زاد عدد المفتشين ومسؤولي الحكومة التي تحتاج الى (رشوتهم) من اجل تسريع المستندات المطلوبة. ثم يزداد المشهد قتامة؛ وفيما يتعلق بالصعوبة في استيراد او تصدير البضائع، فإن الصين تفوز مرة اخرى. في هونغ كونغ يستغرق ملء الوثائق الخاصة باستيراد البضائع ساعة واحدة في المتوسط، بينما يستغرق نحو (66) ساعة في باقي انحاء الصين، مقابل (72) ساعة في بيرو وأورغواي و(96) في بوليفيا و (120) ساعة في الاكوادور و(146) ساعة في البرازيل و(336) ساعة في الارجنتين و(109) في فنزويلا، وفقا لتقرير البنك الدولي.

لن اطيل عليكم بل سأورد ما خّلُص الكاتب إليه، وبعدها اضع نقطة وليس هناك سطر جديد. والآن – يقول الكاتب – يُسجل الاقتصاد الكُلّي لدول اميركا اللاتينية نموا بقيمة (صفر)، والمنطقة اصبحت في امسّ الحاجة الى استثمارات محلية واجنبية ولتحفيز ذلك، ينبغي على هذه الدول الحَدّ من اجراءاتها البيروقراطية بشكل كبير، وان تكون على الاقل صديقة للأعمال مثلما هو الحال في الصين ذات الحكم الشيوعي.

كُلّي أمل ان يقرأ المسؤولون في بلدي تقرير البنك الدولي الى استند اليه الكاتب الحريص على قارته وليس فقط بلده الارجنتين. مع كل الاحترام للجميع.