فلسطين عشقهُ سر من أسرار هذا الكون
للأماكن أصوات وروائح وخصوصية ، مخزون بداخل الانسان منذ طفولته يستمر معه بشبابه حتى كهولته ، يشده اليها حنينه بالرغم من قسوة ايامه ، يلازمه حنينه اينما ارتحل ، فالمكان يرافقه في رحلته اينما انتقل هذا في الوضع الطبيعي فكيف بالمكان إن كان محتلاً مغتصباً من عصابات جاءت من اقاصي الدنيا وأصحابه مهجّرين في منافيها ومخيماتها ، يحول بينهم وبينه حواجز وحدود واسلاك شائكه وجنود ، بكل تأكيد هذا يعطيه امتيازاً اخر ويجعله مختلفاً عن أي مكان ، وسيكون الحنين اليه أشد واستحضاره بالذاكرة أقوى سيما وانه لازال تحت الحراب يضج بالاحداث الجسام التي تمنع ابناؤه من اللقاء، لكن ذلك كله لا يمنع من أن نذهب اليه ونمشي بشوارعه ، نتنسم رائحة برتقاله وزيتونه ، نسمع تغريد طيوره ، نلمس عبق التاريخ على جدرانه ، تلك ذكريات كالوشم على جدران الذاكرة راسخة في الوجدان تمتد كالتاريخ من الماضي للمستقبل.
لقد كان للجوء والمخيمات أثرها في حث الفلسطيني لأن يرسّخ في عقول ابناءه خارطة الوطن المغتصب وحدود قريته التي أخرج منها فأًًصبحت نقشاً في الذاكرة يقوي الانتماء وعشق الوطن والاصرار على استعادة الحق المسلوب لا يمكن لجيلٍ التنازل عنه لتستمر نكبات الوطن في الذاكرة ويخسر الصهيوني رهانه على النسيان وكي الذاكرة فالكبار ماتوا لكنهم ورّثوا ذاكرتهم لمن بعدهم فشبّوا على عشق الوطن ولم ينسوه ولم يغيب من ذاكرتهم فبقي ماثلاً وازدادوا به تمسكاً. لا شك ان المحتل قد استولى على الارض لكنه لن يستطيع ابداً ان ينتصر على الذاكرة ويقتلع منها المكان الذي لم يعد مجرد وطن وملكية أرض بل أًصبح هويه لا بديل عنها رغم شظف العيش في المنافي وقسوة المعاناة في الشتات ، بل كان ذلك حافزاً للتمسك بالهوية والدفاع عنها والمطالبة دوماً بالعودة الى ارضه التي شرّد منها، لم يموت الحق رغم مرور عشرات السنين ولن تتوقف المطالبة به حتى لو بقي تحت حراب المحتل مئات السنين، تلك الهوية ليست فردية بل جماعيه يشترك فيها ذلك الذي يعاني صعوبات العيش وذاك الذي أوجد لنفسه كياناً في الاغتراب سواء في المحيط العربي او في الغرب لذلك استمرت متفردة ولم تذوب في المجتمعات التي وُجدت فيها لأن جوهرها المكان الراسخ في الذاكرة التي لازالت نشطه ولن تموت.
لم يكن المكان لدى الفلسطيني المنفي عن أرضه مجرد قطعة ارض لها جغرافيتها وحدودها بل هو ذاكرة تمتليء بالاحداث والتواريخ ، فرغم بعده عن جغرافية المكان لكنه حمله معه فانتقلت المدينة والقرية بقيمها وعاداتها وتقاليدها الى حيث انتقل خارج الحدود وتجذّر المكان في وعيه وثقافته فتجده يتغنى به شعراً ويبحث عنه في الرواية ويجسده في لوحته وفي حكاية الجدة تحتضن المكان وهي تتذكر شوارعه ، زقاقه، بساتينه وماؤه ، وتشم رائحة وروده واشجاره ليمتد العشق من المكان لكل ما يتعلق به. هكذا استعان الفلسطيني بذاكرة المكان على البعد عنه ويلتجيء لحنينه ليكون المكان حاضراً في ذاكرته ، لا يغيب ولا يتغير، لا يستطيع زيارته لكنه يأتي به اليه كلما اشتعلت به نار أشواقه ، يرى نفسه هناك يتجول بطرقاته ، يلمسه ، يهمس له ويبثه اشواقه ، يتنفس هواءه، يتفياً بظلاله ، يحتضنه فيعيش معه وبه. ذلك الوطن شكلّ الذاكرة فأًصبح وكأن عشقهُ سرٌ من اسرار هذا الكون.