عندما أخذنا المغلف وتركنا الرسالة

كنا نتعلم عن أوروبا، وبالذات عن بريطانيا وفرنسا اللتين استعمرتا بلادنا. كانت مدارسنا ومناهجنا وأساليب تعليمنا إما بريطانية أو فرنسية. وبانهيار الاستعمارين، وتقدم أميركا لتحل محلهما في النفوذ بأشكاله كافة، تحولنا إلى التعلم من أميركا. لكن هذه الأخيرة أكثر من دولة؛ إنها خمسون دولة أو ولاية، تشتمل على أكثر من خمسة عشر ألف نظام تعليمي. غير أنها لما كانت -في الإجمال- تعتمد فلسفة تقوم على "المساق" و"الفصل" و"الساعة المعتمدة"، فقد أخذنا هذا المغلف، وألقينا الرسالة التي في داخله في سلة المهملات، وهي أنه يجب أن يقابل كل ساعة صفية معتمدة ساعتان على الأقل من التعلم الذاتي والبحث خارج الصف.
كما أخذنا عن الولايات المتحدة اختبارات الذكاء -العنصرية أصلاً- التي انتقلت إليها من أوروبا وتمأسست فيها (في أميركا)، وثبت فيما بعد أنها مجرد امتحانات تحصيل (تقرير كولمان)، توقع أكبر الضرر بالطفل إذا أُخضع لها وكانت نتيجته فيها متدنية، لتصرفه فيما بعد على أساس هذه النتيجة.
لم يقم المسؤولون التربويون في بلادنا، للأسف، بالاطلاع على الفلسفة الناقدة والمعارضة لذلك هناك، وعلى الأبحاث والدراسات والمقالات والكتب التي تدعو إلى التخلص منها. لقد "دبّينا" على امتحاناتهم التي أفسدت التعليم المدرسي الأميركي. ويكفي أن تطلع على كتاب واحد مثل كتاب بيتر ساكس "Standardized Minds: The High Price Of America's Testing Culture And What We Can Do To Change It, 2009) للتراجع عن تبنيها، والعودة إلى التعلم من أوروبا الأقرب إلينا تكويناً وتاريخاً وحضارة، من دون أن تسقط أميركا من حسابنا.
إن أميركا بلد مهووس أو مجنون بالامتحانات (Testing Crazy)، كما يقول أستاذ علم النفس التربوي في جامعة أريزونا ديفيد سي. بيرنر. ومع هذا، لم يجعلها هذا الجنون الامتحاني تتمتع بالصدارة في الامتحانات الدولية المقارنة؛ إذ تفوقت عليها دول بازغة جديدة مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة.
والامتحانات في أميركا "بزنس" واسع وقوي، إذ تقوم شركات بوضع أسئلتها، وأخرى بإجرائها، وثالثة بتدقيقها، ورابعة بتصنيفها وإخراج نتائجها. إن شركات الامتحانات في أميركا تتعامل بمليارات الدولارات سنوياً. ولعله لهذا أقدم الرئيس بوش الابن على إصدار قانون يجبر جميع المدارس العامة -يستثني الخاصة- الخضوع لامتحانات عامة في عدد من الصفوف والمواد سنوياً، وكأنه يسعى إلى حث الأهلين على إلحاق أبنائهم وبناتهم بالمدارس الخاصة المعفاة من الامتحانات العامة، ليضع بين أيدي أصحاب هذه المدارس أموالاً سنوية تزيد على خمسمائة مليار دولار.
وكمثال على قيامنا بأخذ المغلف وترك الرسالة، أبين أنه استغرق أحد النظم التربوية في إحدى الولايات (كولورادو) المختصين سبع سنوات لإعداد الخطوط العريضة (Standards) للمناهج من مرحلة الروضة إلى نهاية المرحلة الثانوية. كما اطلعوا على مائة وستة عشر بحثاً ودراسة ووثيقة ومرجعاً محلياً ولوائياً ووطنياً قبل إصدار تلك الخطوط أو المعايير. وتوصلوا إلى وضع 255 خطاً أو معياراً، تتضمن ثلاثة آلاف وتسعمائة وثماني وستين علامة قياسية (Benchmark)، توزعت على ثلاثة أنماط معرفية، هي: المعرفة الإجرائية (Procedural)؛ أي ما يجب على الطفل عمله أو أن يقدر عليه. والمعرفة الوظيفية أو التصريحية (Declarative)؛ أي ما يجب أن يفهمه الطفل. والمعرفة ذات العلاقة بالموقف حسب قولنا "لكل مقام مقال" (Contextual)؛ أي معرفة الطفل السلوك المناسب للحالة أو المشكلة الراهنة. بينما نضع نحن كل الخطوط في أسابيع، حيث يلتقي المعينون في لجنة وضع المناهج وقد "يتحزرون" ويقترحون ويتوافقون على هذا الخط أو الموضوع أو ذاك، لينشأ بعد ذلك "كشكول" المناهج اللولبية التي تتكرر على نحو أو آخر في جميع المراحل.