مقالة متأخرة عن «جلال أمين»

.. وجلال أمين هو نجل المفكر الاسلامي الموسوعي «أحمد أمين» صاحب الكتب المشهورة في التأريخ للعقل العربي: «فجر الاسلام» و»ضحى الاسلام» و»ظهر الاسلام» و»يوم الاسلام». وهو لا يقل قامة وتأثيرها عن والده رحمه الله. وقد تشرفت بالتعرف اليه اثناء الندوة التي عُقدت في عمان عام (2003) بعنوان «الاسلام وقضايا العصر» وان مما تفضل به علي، اطال الله عمره، عدداً من كتبه اهدانيها اواخر شهر كانون الأول من العام نفسه، وكان من هذه الكتب كتابه القيم – وكل اعماله قيّمة – «تنمية ام تبعية اقتصادية وثقافية» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب – في طبعته الثانية – عام 1995م، والمشتمل على مواجهة نقدية لألوان من التبعية القاتلة في نواحي مختلفة من حياتنا المعاصرة. وقد كان ينبغي لهذه المقالة ان تصدر قبل اثني عشر عاما، تحية للاستاذ جلال امين من جهة، وتبنيها الى حاجتنا الماسة الى الافادة من رؤيته النافذة في الموضوعات التي يعالجها الكتاب من جهة اخرى. ولكنك «أن تأتي متأخراً خير من ان لا تأتي، فضلاً عن ان مؤلفنا الكريم يعالج في كتبه «جوهريات الفكر» وهي أشياء لا ينظفئ بريقها على تقادم السنين. اما ما نختاره من هذا الكتاب فهو متعلق بما يسميه الدكتور جلال امين «التبعية في اللغة» حيث يبتين لنا استاذنا الكريم انه «بعد ان مر بنا عهد كنا ننشط فيه لتعريب المصطلحات الج ديدة في العلوم الاجتماعية، تراخى جهدنا وتركنا التعريب لكل كاتب على حدة دون ان نبذل جهداً جماعياً جاداً في اختيار المقابل العربي الأفضل، ومن ثم شاع استخدام اكثر من مقابل عربي واحد للفظ الاجنبي الواحد، واصبح الكتاب وكأنهم يتكلمون لغات مختلفة، بل واكتفينا في كثير من الاحيان بكتابة اللفظ الاجنبي بحروف عربية، فأصاب اللغة العربية درجة لا يستهان بها من التشويه اذ اختلطت الالفاظ العربية الاجنبية، وقد كان الحرص في الماضي على الدقة في اختيار المقابل العربي يحمي اللغة من هذا التشويه، وكان في الوقت نفسه يتيح الفرصة للتنقيب في التراث للتيقن مما اذا كان اسلافنا قد استعملوا الفاظاً مناسبة للتعبير عن الافكار نفسها، اي اننا كنا نقوم في غمار عملية التعريب بإحياء جزئي للتراث». ثم تمادى بنا الأمر «حتى اصبحنا نقبل وجود الألفاظ الغربية في كتاباتنا مع وجود ألفاظ عربية تؤدي المعاني نفسها اداءً افضل».. ثم يذهب الدكتور جلال أمين في وصف ما بلغته حالنا من التردي فيقول انه قد «زاد الميل الى اقحام الالفاظ الاجنبية الغربية في كتاباتنا، وكأنها دليل على سعة الاطلاع وتنوع الثقافة، بينما كان اسلافنا من الكتاب الاكثر علماً والاوسع ثقافة يتحاشون ذلك تحاشيا تاما، من باب الحياء والحرص على نقاء اللغة العربية وجمالها». «لقد شاع اعتقاد خاطئ تماما–كما يقول الدكتور جلال أمين–بأن المهم هو التعبير عن الفكرة على اي نحو كان مهما كان التعبير ركيكاً، والدليل القاطع على خطأ هذا الرأي هو ان الكتابات الاجتماعية ركيكة الاسلوب هي في الوقت نفسه الاكثر غموضا والاكثر تخبطا وتناقضا، وان اسلافنا إذ كانوا حريصون على سلامة اللغة كانوا ايضا اوضح تعبيرا وأدق فكراً». ثم يخلص الدكتور جلال امين الى توكيد ان ركاكة التعبير وغموضه يُتخذان اليوم «وسيلة لإخفاء ضحالة الفكر وضعف الاستيعاب». ويرى المؤلف الكريم انه «لا يجوز القول بان اللغة ما هي إلا وسيلة للتعبير وليست غاية في ذاتها، وانها طريقة للاتصال ولا يهم امر التبعية فيها، وان المهم ان يصل المعنى بأية طريقة ولو عن طريق استعمال لغة اجنبية»، إذ الحقيقة «أن التبعية في لغة التعبير وثيقة الصلة بالتعبير في مضمون الفكر ذاته، تؤدي كل منهما الى الاخرى وتقويها». إن احدنا إذا ما كان تابعاً لفكرة غيره استسهل كما يقول استاذنا، التضحية بلغته (التي هي قوام شخصيته) وساقه ذلك الى التورط اكثر فأكثر في قبول «ما لا يتعين عليه قبوله من الفكر الاجنبي». وعلى أهمية هذه الافكار في ذاتها، وفيما تنطوي من منطق سليم، فإن صدورها عن استاذ في الجامعة الاميركية في القاهرة له اكثر من ثلاثين كتاباً، بعضها في اللغة الانجليزية يحمل دلالة مؤكدة على انه لا يزال فينا، نحن العرب مَن لم تستلبه البهارج والتهاويل، ومَن يعتصم باصالته، ويدفع عن أمته وحضارته.. ومن يقوم أُنموذجا لعافية العقل والضمير، تتنوّره الاعين الظماء للنور، وتنزعُ عن قوسه في مواجهة دعاوى التغريب الذين لا يزيدوننا غير تخسير.