اختراق المجال الجوي أم السياسي؟

إسقاط الطائرة الروسية من قبل تركيا يزيد الأمور تعقيداً في الأزمة السورية. الرواية التركية تقول إن الطائرة اخترقت الأجواء التركية، وإن لتركيا الحق في حماية سيادتها. بالمقابل، فإن الرواية الروسية تقول إن الطائرة الروسية كانت في الأجواء السورية عندما أطلقت عليها الطائرات التركية النار.
بصرف النظر عما حصل بالفعل، فإن الطائرة الروسية لم تقم بأي فعل عدائي ضد تركيا، وكانت هناك خيارات مختلفة أمام تركيا للتعامل مع اختراق أجوائها في حال تأكد حصوله. لكن السؤال المهم هو: لماذا اختارت تركيا إسقاط الطائرة بدلاً من إبعادها؟
إن الأسباب التي حذت بتركيا لاتباع خيار إسقاط الطائرة، سياسية. إذ أرادت أن تبعث برسائل عدّة من خلالها لروسيا أولاً، ولحلفائها ثانياً.
السبب الأول، أن التدخل الروسي في سورية يعدّ ضربة للسياسة التركية هناك. إذ إن تركيا لها مصالح في سورية وهي لاعب أساسي في الصراع الدائر هناك مع بعض الحلفاء العرب من خلال الدعم بأنواعه المختلفة الذي تقدمه للمعارضة المسلحة. كذلك فإنها لعبت دوراً كبيراً في نجاحات المعارضة المسلحة ضد النظام السوري قبل التدخل الروسي. وجاء هذا التدخل ليغير المعادلة، إذ بدأت المعارضة المسلحة بالتراجع أمام قوات النظام المدعومة روسياً وإيرانياً ومن حزب الله.
إضافه الى ذلك الموقف الغامض من الحرب على "داعش". فتركيا رفضت منذ البداية الانضمام للتحالف الدولي ضد التنظيم. وعندما انضمت للتحالف تحت الضغط الأميركي، قامت بقصف التنظيمات المسلحة الكردية بدلاً من "داعش". كذلك، هناك علاقة غامضة بين تركيا و"داعش" تزيد من تعقيد الموقف، إذ إن تركيا كانت نقطة عبور للمقاتلين الأجانب والحدود ما تزال مفتوحة مع المناطق التي يسيطر عليها "داعش".. وغيرها من المؤشرات، إلا أن الضربات الجوية الروسية بدأت تستهدف هذه المناطق.
على الصعيد العسكري، فإن الحملة العسكرية الروسية طالت كل التنظيمات العسكرية المسلحة، لكنها اقتربت كثيراً من الحدود التركية التي تعتبر مناطق نفوذ لتركيا، ما يشكل تحدياً للسياسة والمصالح التركية في شمال سورية. كذلك، قد لا يكون صدفة أن تأتي هذه الحادثة بعد يوم واحد من زيارة بوتين لإيران، والحفاوة التي تم استقباله بها، والتفاهمات التي حصلت حول سورية، وبخاصة حول مستقبل الرئيس بشار الأسد الذي تصر تركيا على رحيله في أي تسوية قادمة.
أما العامل الأخير، فهو الاقتراب المتسارع بين الموقف الغربي عموماً وأوروبا خصوصاً، والموقف الروسي من الأزمة السورية. فقد بدأت دول بوزن فرنسا وبريطانيا ترى أن الأولوية الآن هي لمحاربة الإرهاب و"داعش" تحديداً، وبخاصة بعد الهجوم الإرهابي على فرنسا الذي أثار رعب السياسيين في أوروبا.
إن هذه الحادثة وعقد لقاء مستعجل لحلف "الناتو" يزيدان من التوتر الموجود أصلاً بين الحلف وموسكو، ويحولان المسألة وكأنها خلاف مع الحلف قد يهدف لإضعاف احتمالية تشكيل تحالف دولي جديد ضد "داعش" تشارك به روسيا والذي تراه تركيا بأنه تهميش لدورها في سورية.
إن دوافع إسقاط الطائرة الروسية سياسية بامتياز، وتنطوي على رسائل كثيرة أهمها لروسيا، وهي أن لا تقترب كثيراً من مناطق نفوذها في سورية، وفي ضرب المعارضة المرتبطة بها، وثانيها للولايات المتحدة وأوروبا بألا تذهبا بعيداً بالتحالف مع موسكو أو على الأقل أن يتطابق موقفهما مع روسيا؛ لأن تركيا ستكون الخاسر الأكبر.
ليس من المتوقع أن تقوم روسيا بردة فعل عسكرية تصعيدية ضد تركيا؛ لأن في ذلك مخاطرة كبيرة سيكون الجميع خاسرا فيها. وروسيا لن تنجرّ لمعارك جانبية تلهيها عن تحقيق أهدافها بالمنطقة. السلطان والقيصر لعبا بالنار، ولكن القيصر يلعب الشطرنج بينما السلطان يلعب البوكر.