فيروز!

حلت منذ أيام قليلة احتفالية عيد ميلاد السيدة فيروز التي أتمت ثمانين عاًما من عمرها المديد. تأتي هذه الذكرى ولبنان الذي تعتبر فيروز أيقونته الأولى في حال من الضياع المخيف، ترهل النظام السياسي بشكل بائس. بلد نجح في تهجير شعبه إلى زوايا العالم وقدم له حرًبا أهلية أكلت الأخضر واليابس، واستمر الوضع في التدهور ليتحكم في البلاد فصيل إرهابي مسلح باع ولاءه لدولة أخرى، ساهم في قتل رئيس وزرائه وأصر على أن يبقى منصب رئيس الجمهورية شاغًرا، وأصبح التصادم الطائفي يصيب البلاد بشلل سياسي كامل، جعل من جمع النفايات مهمة مستحيلة ومطلًبا شعبًيا صعب المنال. هذا هو حال لبنان الذي كان سويسرا الشرق.. بات اليوم أقرب إلى الصومال منه إلى الدولة الأوروبية المعروفة بالانضباط والاعتمادية.

فيروز كان لها «لبنان» آخر ترّوج له وتسوقه في مخيلة أغانيها التي أبدعها الأخوان رحباني. فيروز صوت لبنان.. قرية قرب السماء بلا طوائف ولا خلافات، بلد بسيط خاٍل من التعقيدات، فهرب الناس بمخيلتهم إلى الفضاء البعيد وإلى الأفق الواسع الذي كان أجمل دوًما من واقع أليم على أرض لبنان. أحبت لبنان «كيفما كان» حتى «بجنونه»، أحبته وصدق محبو فيروز وآمنوا برؤيتها للبنانها حتى صدموا. فيروز لم تفلح في نقل اللبنانيين وحدهم إلى عالم الخيال، ولكنها أقنعت العرب كلهم بأننا «سنرجع يوما» و«الغضب الساطع آت»، ولكنها كانت كلمات ليست كالكلمات. فيروز التي نجحت في نقل كل من يستمع إليها إلى عوالم أخرى بلا تفتيش ولا تأشيرة، تحولت إلى طقس يومي مع ساعات الصبح واحتساء القهوة، تحولت إلى بلسم ودواء وكيف.

غنت للشام وبيروت ومصر وبغداد ومكة، كانت للبنان الأيقونة التي ضاهت شجرة الأرز في رمزيتها، فاتفق كل اللبنانيين على محبتها أكثر من التفاهم على أي أمر آخر. فيروز وبعد ثمانين عاًما وهي الصوت الملائكي المترفع عن التملق السياسي فشلت في توحيد اللبنانيين وأعطتهم الخيار في «أنا صار لازم ودعكم» أو «أي في أمل» ولم يستوعبوا لغة الإشارات والرموز التي خاطبتهم بها. حتى العرب لم يفقهوا وهي تناشدهم بـ«عندي ثقة فيك» وكأنها تناديهم وتنادي كل ضمير فيهم. لم تكن فيروز تؤدي وتغني وتشرح بالخيال ولكنها كانت تنحت صورة مثالية في الذهن العميق للشخصية العربية. رأت الموت يخطف أحبابها، من زوجها وأخيه وابنتهما وبلادها، ومع ذلك بقيت صامدة كالأرزة القديمة، جذورها في أعماق الأرض وشموخ يناطح السحاب.

غنت لنا وعنا وكانت فينا ومعنا «فايق يا هوى»، وتذكرنا «قديش كان في ناس»، تقلب علينا المواجع، و«ليالي الشمال الحزينة» تذرف بها دموعنا، و«رجعت الشتوية» تدفئ قلوبا أنهكتها برودة الدنيا القارسة، كانت جارة الوادي تارة، وجارة للقهر تارة أخرى، ولكنها كانت دوًما «كوجه بحار قديم». فيروز تحتفل بنا ونحن نحتفل بها، فهي صنعت أفراًحا ورسمت قصوًرا في الخيال وصاغت أناشيد في الأحلام. كانت تحيك لنا بحنجرتها دوًما عالًما أجمل من واقعنا، حجزت لنفسها مكاًنا في السماء عن الملائكة في قصر الخلود. أبكيِتنا وأفرحِتنا وأرقصِتنا ونسيِتنا فكيف ننساِك في يومك يا سفيرتنا؟! كل عام وأنت فيروز لنا