جناية الغني وجنازة الفقير..!

آلاف المدنيين قتلتهم هجمات المتطرفين الانتحاريين في العراق وسورية وليبيا، والمئات والعشرات في الكثير من المدن العربية، ولا عدد للذين قتلتهم أعمال الإمبرياليين الغربيين مباشرة أو بالتداعي، ولم نر غضباً عالمياً كما حدث لمقتل الفرنسيين. ولا شماتة في مصارع الأبرياء في أي مكان لأن الحياة ينبغي أن تكون ثمينة بنفس المقدار. لكن من منتهى اللاإنسانية والعوز الأخلاقي تثمين الأرواح البشرية بقيم مختلفة؛ حياة هذا غالية وذاك رخيصة أو بلا ثمن.

في مقالة حديثة بعنوان "الضحايا غير المرئيين" يتحدث جيمس زغبي، مدير المعهد العربي الأميركي، عن حالة واضحة جداً للتمييز الصفيق في تقدير الحياة البشرية: حالة الفلسطينيين. ويذكر زغبي أن ثلاثة أرباع أعضاء الكونغرس الأميركي استقبلوا رئيس وزراء الكيان الذي زارهم بداية هذا الشهر، برسالة تشجب "عنف الفلسطينيين وتحريضهم"، ولا شيء عن ضحاياهم وإذلالهم. وذكرت بيانات الزيارة الفلسطينيين فقط كمشكلة يجب حلها لكي تستطيع "إسرائيل" العيش بسلام!

في الحديث عن التطرف، يذكر معظم المراقبين المسألة الفلسطينية في جوهر الأسباب التي أنتجت السخط والشعور بالظلم الذي يصنع اليأس -فالعنف والكراهية. وفي الحقيقة، يعرض التعامل مع الفلسطينيين يومياً حقيقة عوز العالم إلى العدالة، واحتقار حياة أرواح العرب ومشاعرهم. طوال الوقت وعلى مدى عقود الآن، شاهد العرب والمسلمون الفلسطينيين وهُم يُقتلون، والجنود الوحشيين وهم يسحبون البنات والأطفال من أحضان أهلهم إلى السجون، والطائرات الحربية وهي تحرق المدنيين العزل في البلد المنكوب. وأمام ذلك، يشاهد الغرب هؤلاء الضحايا وكأنهم ليسوا بشراً لحياتهم قيمة، ولا تتحرك عاطفة في العرب الرسميين فيعرضون جدية في محاولة إنهاء هذا البؤس –إذا لم يكونوا موافقين.
مع الفلسطينيين الذين تجسد خبرتهم منتهى استهتار رعاة نكبتهم بقيمة أرواحهم، أُزهقت أرواح آلاف المواطنين العرب في المعتقلات أو حملات القمع المحلية معظم الوقت. كما أصبحت حياة الملايين تشبه الموت بسبب السياسات التي أسلمتهم إلى الفقر واليأس وفقدان الحرية وخنق الصوت، في قتل مجازي ربما يكون أسوأ من المادي. وكان غرب "الديمقراطية وحقوق الإنسان" نفسه يزود مؤسسات القمع بالرصاص والغازات المسيلة للدموع وسبل الخلود على حساب مطالب الشعوب.

ثم جاء حدثان متعالقان ذهبا بالعرب إلى أقصى نهايات اليأس. جاء الغزو الأميركي للعراق بدعوى "حُرية العراق" وإسقاط دكتاتور، فقط ليسقط شعب العراق كله في المذبحة ويطلق على الدنيا شيطان الإرهاب، وحيث فُتحت الأذرع للقوات الغريبة القاتلة في أكثر من مكان عربي. وبعد ذلك، جاء "ربيع العرب" الذي بدأ حركة آملة تتعقب الضوء، فقط لتُفتح أخيراً مخازن أسلحة الأنظمة التي صدأت في المستودعات، وإنما لقتل مواطنيها المطالبين بالكرامة والحرية. وعندما تدخل الغرب والشرق -ووكلاؤهما الذين ليس بينهم غير مستبد– "لنجدة المقهورين"، كان ذلك بطريقة مشعل الحرائق الذي يسلح الجميع ليحرقوا الجميع. وأياً تكن التفاصيل، كانت الحصيلة تدمير بلدان ومصرع عشرات آلاف الضحايا وتشريد الملايين، وإجهاض حلم الناس بالتغيير وتيئيسهم من جدوى الثورة.

أرواح هؤلاء الضحايا من العرب وأحلامهم المقتولة عوملت كقلامات ظفر أو أدنى. وفي الأساس، كان إفقار الغرب المتواصل للمنطقة، ورعاية أنظمتها الاستبدادية التي تميز نفسها على حساب حيز الناس وآفاقهم وتجعل حياتهم مشقة و"جهاداً" –كان ذلك دعوة إلى رواج الموت واحتقار قيمة الحياة ووصفة لتكثير الضحايا. أتاح ذلك هرولة الشباب اليائسين إلى شِباك المتطرفين، وتفجير أنفسهم في مواطنيهم والآخرين بعد أن فقدوا الأمل في الحياة، أو العمل كمرتزقة قتل مقابل الدولارات؛ وأتاح تفريغ الناس أزماتهم باستهداف مواطنيهم على أساس فروقات لم تكُن تلحظ في الطائفة أو الدين أو العرق؛ وأثار التوترات المجتمعية التي تتجلى في المشاجرات والعصبويات والجرائم التي تحصد الأرواح بكثرة مقلقة في الأماكن "الهادئة" التي فوتتها الحروب الأهلية؛ وأتاح تحويل الغربيين العاديين إلى أهداف مشروعة وجعلنا جميعاً مشروع ضحايا لانتقام جديد.

أرواح قتلانا الذين يسقطون على أيديهم أو بأدواتهم بلا انتهاء، وأرواح أحيائنا التي يجردونها من القيمة والمعنى، هي ضحايا تذهب بلا عناية ولا انتباه –مثل كل جنازات الفقراء. والجناة يغتالون شعوباً كاملة ويفلتون بلا عقاب ودون أن يعلق أحد، كشأن كل جنايات الأغنياء.