كسر رمزيّة وجود "الدولة الداعشيّة"

خلال 48 ساعة فقط، حرّرت قواتٌ كرديةٌ مدعومةٌ بغطاءٍ جوّيٍ أميركي منطقة سنجار من ظلاميّة دولة الجهل الدّاعشية. لم يحتجْ رفع سيوف القتل عن رقاب أهل المنطقة أكثر من بضعة آلافٍ من المقاتلين المزوّدين السلاح الكافي.
في هذا النصر دليلٌ على أكذوبة قوّة "داعش" العسكرية. تمدّد "داعش" لأنّه لم يجد من يردّه. التحالف الستيني الذي قادته الولايات المتحدة لم يشنّ حرباً حقيقيّةً على الإرهاب، ولم يوقف وصول المقاتلين الأجانب إلى سورية عبر تركيا.
بيد أنّ اقتحام روسيا منطقة النفوذ الأميركي في المنطقة، ونسف جرائم باريس ارتياح الغرب أنَّ "داعش" ليس خطراً خارج الشرق الأوسط يمكن أن يغيّرا ذلك.
فتدخّل روسيا العسكريّ في سورية واحتمال توسّعه إلى العراق أطلقا قلقاً أميركيا من منح موسكو نصراً حيث فشلت هي. تُرجم هذا القلق زيادةً في إسناد "البيشمركة" والجيش العراقي، وتسليحاً لـ"قوّات سورية الديمقراطيّة"، ما مكّنها إلحاق هزائم سريعةٍ بـ"داعش" جوار الرقّة.
ودفعت همجيّة جرائم باريس جهود دحر "داعش" إلى مقدّم الأولويات الأوروبية. اتّخذ الاتحاد الأوروبي إجراءاتٍ ستحاصر أتباع "داعش"في حدوده. وشنّت فرنسا هجماتٍ مكثّفة ضدّ عاصمة جهله وضلاليّته في الرقّة، في الوقت الذي تعمل فيه على بناء تحالفٍ يدعم عمليّاتها العسكريّة لدحره هناك.
لكنَّ السؤال هو إلى أيّ مدىً سيذهب التغيّر في ديناميكيّات المشهد السوري والإدراك الجديد لحجم خطر "داعش" بجهود وأده، خصوصاً في ضوء تمسّك الرئيس أوباما باستراتيجيّته الفاشلة ومنطلقاته المغلوطة في التعامل مع الخطر الإرهابيّ.
لن تكون هذه الجهود كافيةً إلّا إذا أُسقطت "دولة" الجهل الداعشيّة في الرقّة والموصل. ذاك أنَّ قوّة "داعش" تكمن في رمزيّة وجود "الدولة" وهزالة أدوات مجابهته أكثر من إمكاناته العسكرية. فهذا الوجود يشكّل أكبر عامل جذبٍ للمقاتلين الأجانب، التي تقول تقارير الإنتربول إنَّ عددهم فاق 25 ألفاً. إسقاط هذا الرمز شرطٌ أساسيٌ لتمزيق الأسطورة الداعشيّة، وأقصر الطرق إلى كبح قدرتها جذب الأتباع.
لتحقيق هذا الشرط لا بدّ من التوصل إلى تفاهماتٍ مع موسكو. ثمّة خلافاتٌ كبيرةٌ مع روسيا حول طبيعة الحلّ السياسيّ السوري الذي لا يُمكن هزيمة الإرهاب من دونه. لكنّ الخلافات سياسيّةٌ ومصالحيّة. تفاهماتٌ عربيّة روسيّة تضمن مصالح موسكو المشروعة يُمكن أن تنهي الخلاف حول مصير الأسد، وأن تجعل من روسيا حليفاً حاسماً في حلّ الأزمة، وبالتالي إنهاء الخطر العسكريّ الداعشيّ. روسيا ليست معنيّة بالأسد. همّها مصالحها التي يُمكن التفاهم حولها.
وفي إطار تفاهمات دولية أوسع تبني على التوافق مع موسكو، يُمكن التوصّل إلى استراتيجيةٍ لإسقاط "دولة داعش" وتنفيذ الحلول السياسيّة التي يجب أن تكون العمليّات العسكريّة جزءاً منها.
حتّى تنجح هذه الاستراتيجية، تحتاج الدول العربيّة المعنيّة فعلاً بهزيمة الإرهاب تبوّؤ دورٍ قياديّ في تنفيذ الاستراتيجيّة عسكريّاً وسياسيّاً. عسكريّاً، تشارك بما يلزم في حربٍ لتحرير الرقّة وتدمير "دولة داعش". وسياسيا، تتّخذ إجراءاتٍ لا تهاون فيها للتّصدّي للظلاميّة ومروّجيها، ولتطهير مناهجها ومنابرها العامّة من النزعات الإلغائيّة والإقصائيّة، مع الاستمرار في برامج إصلاحيّة تجذّر احترام المواطن وحقوقه.
ويجب أن يضمن الجهد الدوليّ إلزام تركيا العمل بفاعليّة على إغلاق حدودها بوجه الإرهابيّين، تجفيف تمويل "داعش" بضرب ووقف دعم العصابات الإرهابيّة الأخرى في سورية، ومحاصرة الترويج للوباء الإرهابيّ في وسائل التواصل الاجتماعي.
"داعش" خطرٌ استثنائيٌ على العالم. مواجهته تتطلّب خطواتٍ استثنائيّةً أيضاً. كسر وهم "دولة" الجهل ورمزيّتها أساسيٌّ في هزيمتها. وهذا متطلّبٌ لن يتحقّق إلا بحربٍ شاملةٍ في إطار خطّة سياسيّة لن تكون متاحة إذا لم توافق روسيا على ضرورة انتهائها بخروج الأسد من المشهد.
جرّب العالم الحلول المنقوصة فكانت النتيجة أنْ تعاظم خطر الإرهاب وبات تهديداً عالمياً. كلفة حربٍ حاسمةٍ ضدّ "داعش" عالية. لكنّها أقلّ من ثمن عدم خوضها. يرفض أوباما الإقرار بذلك. لكنّ مشاهد ضحايا بيروت وباريس وباماكو وسيناء ودير الزور والرمادي تصرخ أن لا جدوى من أيّ جهدٍ لا يشمل حرباً شاملةً تقضي على "دولة داعش" وتقتل إرهابيّيها.