جذور الإرهاب.. مستنقع التضليل والتغييب

سامح المحاريق
 
 
 
 

 

حفلة دموية في باريس تعتبر الحدث الأعنف في تاريخ فرنسا، باستثناء الحروب والاضطرابات السياسية الواسعة، ويبدو أن هذه الليلة ستكون فارقة تاريخياً في فرنسا والقارة الأوروبية، التوقيت أتى وكأنه يستهدف الجاليات العربية والمسلمة في الصميم، ويهدد استقرارها ومستقبلها في القارة العجوز، وفوق ذلك يعطي زخماً كبيراً لليمين الأوروبي المتطرف ليتوسع في مواقع القرار الأوروبية.
كانت مشكلة الاندماج الثقافي للمهاجرين واحدة من التحديات الأساسية أمام الأوروبيين خلال العقدين الأخيرين، وتعددت الآراء بخصوصها للدرجة التي تحول فيها المهاجرون إلى موضوع ساخن للصفقات الانتخابية، وكان تراجع الوعي السياسي بين صفوف المهاجرين، وعدم قدرتهم على الانخراط في مجموعات تأثير، سبباً في استغلالهم لتبادل المواقع بين اليمين واليسار، وخاصة في فرنسا، فالرئيس السابق ساركوزي الذي اتخذ مواقف شرسة تجاه سكان الضواحي من المهاجرين تمكن من الوصول إلى الرئاسة بعد أن كان المهاجرون يعاقبون منافسته سيجولين رويال على حياتها الشخصية وينصرفون عن التصويت لمصلحتها على الرغم من مواقفها المتعاطفة مع قضاياهم.
مبدئياً تحتاج أوروبا للمهاجرين، وربما بكثافة أكثر من أي وقت مضى، ولا يمكن للاقتصاد الأوروبي أن يواصل النمو دون تدفق المهاجرين من مختلف أنحاء العالم، حتى أن المتقاعدين الأوروبيين لن يجدوا من يقوم بتمويل رواتبهم التقاعدية في حالة ايقاف المهاجرين، ولكن السؤال الذي يجب توجيهه لأوروبا يتعلق بنوعية المهاجرين والظروف التي يجري استقبالهم من خلالها، فعادة ما ترفض الدول الأوروبية اتاحة فرص الهجرة للعمالة الماهرة وللجامعيين، وتحاول أن تستقطب المهاجرين من غير أصحاب المهن أو المهارات التي يمكن أن تكفل لهم الحياة الكريمة من خلال العمل، وبالتالي تحاول دائماً أن توفر وقوداً من القوى العاملة لمصانعها وورشها والخدمات البسيطة التي تقدم في المدن، وذلك نفسه يخلق حالة من عدم التوازن بين المهاجرين والمجتمعات التي تستضيفهم.
ظاهرة الاستبعاد الاجتماعي كانت مشكلة لدى المهاجرين وسبباً رئيسياً في هجرتهم، ومزيدا من الاستبعاد يترك هذه الفئات الواسعة تخضع للدعاية الدينية العنصرية والمتطرفة، ولذلك كانت داعش نتاجاً أوروبياً أكثر منه محلياً في الدول العربية، والمشكلة أن إزاحة داعش من المنطقة سيؤدي إلى عودة المئات ممن يسمونهم بالذئاب المنفردة وهم مسلحين بخبرات واسعة وأحقاد كثيرة.
المواجهة مع داعش ومع التطرف، بجميع مذاهبه وألوانه، هي مواجهة فكرية في الأساس، وتعني ألا تخضع المجتمعات للمجاملات مع الأكاذيب التي تسوقها مؤسسات غير مؤهلة لتنشر صورة مشوهة ومختلة للتراث والتاريخ الإسلامي، ويجب أن تجري مراجعة جادة للتراث، فكم من مرة يتورط الخطباء والوعاظ والدعاة في داومة الأحاديث الموضوعة والأخبار الضعيفة، ويبقون يروجون وينفخون فيها لتصبح هي القاعدة الأساسية، وتتوارى وراءها الحقائق كلها، وليس من وظيفة المسلم أن يذهب إلى المسجد مع صحيح البخاري وكتب الأحاديث ومراجع الفقه ليتبين ما الذي يقوله الخطيب، فهذه أولاً وظيفة الدولة التي يجب أن تتحيز للحقيقة حتى لو كانت تثير غضب بعض المستفيدين من تغييبها.
المواجهة فكرية ويجب على المسلمين المعتدلين أن يشكلوا اليوم جبهة مقاومة داخلية للأفكار المغلوطة والمسيئة التي تجعل الشباب العاطل يندفع إلى داعش وغيرها بحثاً عن خالصه الأخروي لأنه بقي معطلاً ومهمشاً ومهملاً في عالمه الأرضي.
لا يمكن تبرير النزعة للعنف والارهاب، ولا التماس العذر لأي قاتل، ولكن يجب تفهم الأسباب التي تدفع بالإرهاب ليتحول إلى ظاهرة، ويجب البحث والتعاون من أجل ذلك، فالقضية ليست فقط الإسلام في مواجهة غير المسلمين، ولكنها أيضاً الشرق يواجه الغرب، والشمال يجابه الجنوب، ومن يملكون يتخندقون ضد من لا يملكون، وبين ذلك كله ينبت العنف ويجد من يستغله لمصلحته ويوظفه من أجل مطامعه، وبين ذلك كله، تخسر أجيال كثيرة من فرصها وحقوقها في الحياة بصورة معقولة، وبين ذلك كله، تضيع الحقيقة وراء الوقائع والأحداث، وتصبح المسألة حلقة من العنف المتبادل الذي يتطلب كثيراً من الشجاعة والتكلفة لمواجهته.