القاهرة ومعالجة أزمة الطائرة

 ما نراه من حملة كلامية من قبل مسؤولين وإعلاميين في مصر٬ ضد الحكومات والمؤسسات الغربية٬ رًدا على الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها٬ مثل وقف حركة الطيران السياحية٬ وترحيل مواطنيها من شرم الشيخ٬ لن يغير من القرارات٬ ويضعف الحجة الرسمية في التعاطي مع أزمة تحطم الطائرة الروسية. هذه الحكومات مضطرة لاتخاذ إجراءات ترفع عنها المسؤولية القانونية والسياسية في بلدانها٬ وأمام ناخبيها٬ ولو لم تفعل٬ ووقع حادث آخر٬ فإنها ستحاسب بشكل عسير. واللجوء لوقف الطيران احتراًزا٬ وتحذير مواطنيها من السفر٬ أو حثهم على الخروج من البلاد٬ أصبح مألوًفا في منطقتنا منذ أن استشرت فيها حالة الإرهاب٬ وليس موجًها ضد الحكومة المصرية٬ أو ناتًجا عن نشاط جماعة الإخوان المعادية. فالحكومات الغربية مضطرة لإطلاق التحذيرات لمواطنيها وشركاتها٬ حتى وإن كان بعضها مبنًيا على أسباب ضعيفة٬ مثل اتصالات هاتفية كاذبة٬ أو تقارير أمنية ضعيفة المصادر. ولدى هذه الحكومات اعتباراتها السياسية التي تقلقها عندما ترى حجم الفوضى وانتشار الحروب٬ وتعرف أن مواطنيها٬ ومصالحها٬ مستهدفون. صحيح٬ أنه لا أحد يعرف بعد٬ بشكل علمي٬ إن كانت هذه الحادثة بفعل متعمد أم لا٬ وهي مسألة وقت حتى تظهر الحقيقة كاملة.

وليس لدى الدول الأخرى الوقت لتنتظر نتائج التحقيق٬ فهي تخشى أن تكون الحادثة إرهابية٬ وهناك المزيد منها في الطريق٬ ولن تقبل تطمينات الحكومة المصرية في هذه المرحلة٬ مهما كانت. لننظر إلى الصورة الكبيرة في أزمة تحطم الطائرة الروسية٬ إن صحت فرضية العمل الإرهابي. المنطقة كلها٬ لا مصر وحدها٬ مهددة ومستهدفة بشكل مستمر٬ وتتعمد التنظيمات الإرهابية استهداف المصالح الأجنبية٬ ووسائل النقل الرئيسية٬ والمناطق السياحية٬ لأنها تضرب الحكومات العربية في مداخيلها الحيوية٬ وتهز صورتها٬ وتريد أن تقود إلى الفوضى٬ فإسقاط النظام. وما دمنا في حرب مع الإرهاب٬ فإن المعالجة السياسية والإعلامية لا يفترض أن تبنى على الإنكار والهجوم على الغير٬ بل تبدأ أولاً بتحمل المسؤولية٬ واعتماد الشفافية٬ وإصلاح الخلل إن وجد.

فإن تبين أن سقوط الطائرة بفعل إرهابي٬ هنا يمكن أن يعالج في إطاريه السياسي والأمني. وإن كان لسبب آخر٬ أيًضا٬ فسيتطلب الأمر الشفافية. المسؤولون المصريون بانتقادهم الحكومات الأخرى لا يهزونها قيد أنملة٬ بل يضعفون موقف حكومتهم٬ في وقت تحتاج فيه إلى من يساندها. كما أن صراخ الإعلام على الغير٬ أو لجوءه إلى إشاعة مفاهيم المؤامرة٬ يفقده مصداقيته. هذه حوادث يترك الحكم الأخير فيها لمحققي الطيران. وقد سبقت مصر٬ في المآسي٬ دول عربية تضررت كثيًرا عندما استهدف الإرهابيون الأجانب والمناطق السياحية٬ مثل الأردن والمغرب وتركيا وتونس. فقد مرت تونس بمرحلة أصعب٬ نتيجة تكرر ضرب مدنها السياحية التي تعتبر مصدر دخل البلاد الأول٬ مع هذا لم يهاجم المسؤولون هناك الحكومات التي قاطعت سياحيا بلدهم٬ بل أظهروا قدًرا كبيًرا من التفهم٬ وقاموا بخطوات كثيرة إضافية لإثبات حرصهم على سلامة السياح الأجانب٬ وأخيًرا عادت السياحة مزدهرة. وهذا لا يحصن البلاد من وقوع هجوم إرهابي آخر يفسد الأمور٬ إلا أن الشفافية وتحمل المسؤولية يمنحان الثقة في الحكومة٬ والتعاطف معها. لا أحد يتعاطف مع تفجير طائرة٬ أو ضرب سياح اختاروا بلادنا مع أطفالهم لتمضية إجازاتهم. ثم إن الحديث عن التمسك بالسيادة في مفاهيم خدمية٬ مثل الطيران والسياحة٬ كلام في غير محله. من صالح الدول أن تسمح لشركات الطيران٬ وحكومات بلدانها٬ أن تمارس ما يطمئنها على سلامة طائراتها ومواطنيها٬ بما في ذلك التفتيش الأمني الإضافي للركاب والحقائب.

ومن يمر عبر مطار العاصمة الإماراتية٬ أبوظبي٬ قبل السفر إلى الولايات المتحدة٬ لا يشعر بانتقاص للسيادة بوجود موظفي الأمن والجوازات الأميركيين في الجزء الأخير لما قبل السفر. على العكس تماًما. فإذا كانت هذه الدول تريد سياًحا٬ وزواًرا٬ ونشاًطا اقتصاديا كبيًرا٬ عليها أن تكون البادئة لطمأنة الحكومات الأخرى في إجراءاتها٬ وإن تطلب الأمر إشراكها في الإجراءات ا لتفتيشية٬ فهذا يعزز ثقتها٬ ولا ينتقص من سيادتها