الذين زرعوا الباميا في عبدون

كلما جلست في جلسة تتحدث عن تطور عمان التي تشبه معجزة حقيقية ، سمعت من بعض الحضور حكايات تدور عن أسعار أراضي عمان وعقاراتها ، وعادة ما يؤكد البعض أن أجدادهم رفضوا شراء أراض في عبدون بسبب بعدها عن العمران ، وأن سعر الدونم في عبدون لم يكن يتجاوز عشرات الدنانير ، ولا أدري لماذا يختار الناس عبدون ، وليس غيرها من مناطق العاصمة الجميلة التي تتسابق كل أطرافها في النمو والامتداد بكل الاتجاهات ، حتى لينطبق المثل الأردني المعروف على كل أطراف العاصمة ( علمك بعمان قرية ) والحقيقة بأن عمان بالفعل كانت قرية بكل مواصفات القرية الهادئة والتي يعمل أهلها في الزراعة مع مطلع القرن العشرين ، فكيف يقتنع العماني الشاب بهذه المعلومة وهو يدخل المولات ليشتري كل الأجهزة التي تصله بالعالم بكبسة زر ...؟ وكيف يصدق أن " الكوفي شوب " كان أرضا خالية وبعضها كان مزروعا بالبندورة البعلية والباميا والخيار ..؟ تداعت هذه الأفكار على ذهني عندما اضطررت لاستقلال سيارة تكسي لأذهب إلى أحد المواقع في عبدون ، ولا أدري لماذا تفتحت قريحة السائق وهو يمر بالشوارع الهادئة التي تعمرها القصور والفلل الجميلة ، كان يستعرض ذاكرته دون أن أطلب منه ذلك ، وبالتأكيد تحدث عن أسعار هذه الأراضي التي يعرفها في طفولته ، وعندما أوصلني إلى المكان المطلوب ، قال بنبرة استذكار مؤثرة : - والله يا عمي أننا كنا نزرع الباميا في هذه الأرض ..! ولأنه أحس بفضولي الكبير ، لأنني لم أفتح باب السيارة ، أضاف بصوت أعلى : - كنا نستأجر الأرض بعشرة دنانير ونزرعها صيفي وأنا لقطت الباميا عشرات المرات من هذه الأرض التي اعرفها مثلما اعرف بيتي ..! عندها صدقت كل ما يقوله ، وأعطيت لنفسي فرصة أكبر لأستمع وأسأل ، فهذه فرصة لمن يكتب تاريخ عمان من خلال السجلات والصحف والوثائق والمذكرات ، ليسمع الرواية المحلية من الأهالي ، وأضاف السائق الذي استعاد ذاكرة طفولته بأن المحصول الصيفي من هذه الأرض التي تتجاوز الثلاث دونمات كان مربحا ، وأنه كان يقوم بتسويقه مع عائلته في سوق الخضرة ، وعندما أحس بأنني فتحت باب سيارة الأجرة في إشارة إلى انتهاء الرحلة ، قال بنبرة ختامية : - كيف أصدق أن هذه الأرض الآن تساوي الملايين وأنا أعرفها قبل ثلاثين عاما خالية من العمران ..؟ والله يا عمي ما بصدق عيني .. قصور ومولات وسفارات وفلل في الأراضي التي زرعناها باميا وما كان فيها حجر على حجر ..!. شكرت السائق وتوجهت إلى موعدي ، وأنا لا أصدق أن الصدفة ساقتني لأستمع إلى ذاكرة ليست بعيدة عن سيرة عمان الجديدة ، صحيح أن المكان الذي دخلته تحفة معمارية رائعة وتساوي الملايين ، لكنني كنت أشم رائحة أرض عبدون المزروعة قبل ثلاثين عاما بالبندورة والباميا والبطيخ ، وأصدق المثل الذي ردده أهالي عمان قبل قرن وهم لا يصدقون تحول قريتهم الوادعة الهادئة إلى عاصمة لدولة ، ( علمك بعمان قرية ..! ) نحن نعيش في عاصمة حققت المعجزات وما تزال ..متعها الله بالأمن والطمأنينة دائ