لقاءان تلفزيونيان مهمّان

اجرت المذيعة التلفزيونية المصرية، وهي أُنموذج للاعلامية المثقفة قلّما نعثر عليه ايامنا هذه، لقاءات ذات اهمية خاصة، مطلع سبعينيات القرن الماضي. وكان اكثر هذه اللقاءات لفتا للانظار وحفزاً للعقول ما كانت اجرته مع كل من طه حسين وفيليب حتّى. ولكن بفارق ان لقاءها بطه حسين شارك فيه نخبة من أُدباء مصر ومفكريها، على حين انفردت هي بلقاء فيليب حتى. وكان اول اللقاءين في القاهرة، في منزل طه حسين رحمه الله، وكان الثاني في بيروت كما اذكر او في برنستون في الولايات المتحدة حيث أسس فيليب حتى قسم الدراسات العربية في جامعتها.
اما لقاؤها بطه حسين فقد كان تظاهرة ادبية فكرية تكريمية لأكثر كتّاب مصر واكاديمييها مدعاة للخلاف في القرن العشرين. وبدا طه حسين فيه وهو يجلس هادئا متأملا بعد عقود من الصراع. وكان مما لا يزال في ذاكرتي من كلامه انه يقضي الساعات الطوال يوميا في الاستماع الى اذاعتي القرآن الكريم والبرنامج الثاني (الثقافي) من القاهرة، ملتمسا زاد العقل وزاد الروح منهما.
واما فيليب حتى، فلقاؤها به، وقد بثه التلفزيون اللبناني قبل أيام، يكشف لنا كثيرا من حقائق السياسة الاميركية في بلادنا، ويظهرنا على سيطرة اليهود على مراكز القرار الاميركي وعلى ضعف الحضور العربي في مقابل ذلك، وان من اهم ما جاء في هذا اللقاء حديث الحوار الحاد الذي جرى بين فيليب حتى وإلبرت اينشتاين عام 1945م حين طلب اليهما ان يقدما كُلَّ من وجهة نظره تقريرا يعترف بالقضية الفلسطينية.
فقد قدّم اينشتاين تقريرا كتبه له اللوبي الصهيوني فكان بعيدا عن الحقيقة ومتنكباً لها، الأمر الذي دفع فيليب حتى الى ان يقول لاينشتاين: «إن معرفتك بالقضية الفلسطينية مثل معرفتي بالنظرية النسبية».
ويقول فيليب حتى في معرض تعليقه على تلك الواقعة ان اينشتاين لم يزر فلسطين في حياته (وفي الحقيقة انه زارها حين افتتاح الجامعة العبرية في فلسطين المغتصبة). كما يقول ان الضغط الصهيوني كبير وفعّال في الولايات المتحدة، وانهم منظمون ومدعومون ويقارن بينهم وبين العرب هناك من خلال اخفاق العرب في تدبير اكثر من خمسة عشر ألف دولار لمعهد العرب الاميركان في نيويورك، في حين جمع الصهاينة اكثر من خمسمئة دولار للصندوق الصهيوني.
ومن عجيب ما ذكره فيليب حتى: «في هذا اللقاء قوله: «إن القُسس عطلوا علينا كثيرا لانهم كانوا يدرسون ان فلسطين لليهود.».
ولدى حديث فيليب حتى عن امنياته المستقبلية قال: إن من هذه الأُمنيات ان يكون لبنان موحداً متصلاً بعضه ببعض، لا فوارق بين فئاته وطبقاته، وان يكون مختبرا لتعايش اتباع الاديان، وان ينقل الثقافة الشرقية الى الغرب وينقل الثقافة الغربية الى الشرق.
ومهما يكن الامر في هذين اللقاءين مع طه حسين وفيليب حتى، ومهما يكن في تراث الرجلين من نقاط نخالفهما فيها (وهي نقاط جوهرية لا ريب) فان فيهما، الى جانب البعد المعرفي، بُعداً إنسانياً لرجلين تمكن الهاجس العلمي منهما، سواء اوافقناهما فيما انتهيا إليه ام خالفناهما وحبذا لو يظل لهذا الهاجس حضوره في حياتنا الاكاديمية العربية على وجه الخصوص وفي حياتنا الثقافية بوجه عام..