الأديان بأهلها وكما تطبَّق

الدين ليس الذي في الكتب والنصوص. الدين هو الذي في الصدور والعقول والممارسات. ولذا من يكن راقياً يجدْ في كتب دينه ما يؤكّد له هذا الرقيّ. ومن يكن سفاحاً أو قبيح الخُلُق والطويّة، قد يجد في الكتب ما يؤيّده. والتأويل يُعين دوماً على لَيِّ النصوص إن قصَّرت عن بغيته وهواه. المهم أن "داعش" وأخواتها لم تظهر -في رأيي- من بطون الكتب، بل من سلفيةٍ قبيحة (نشأت في تصحّر فكريّ ومعرفيّ ونزاع قبليّ بدائيّ) ظلت تمتدُّ وتستشري (لأسباب اقتصادية وسياسية) وتجعل من الدين مطيةً لكل تفكير معتلّ. العبرة إذن، في كيف نفسّر الدين ومن يفسّره. وهذا ليس دفاعاً عن الأديان، بل هو بحثٌ في حقيقة علاقة المتلقّي بالنص. فالنصّ ساكن، ولا يتحرك إلا بمتلقٍّ ومتلقّية. والتلقّي تأويل. والتأويل لا بد له من خلفيّة ثقافية. فالخلفيّة الثقافية إذن هي مربط الفرس ها هنا.
سآخذ القرآن مثلاً. عندما يكون منهج معلمك أو مربّيك جمالياً سينصبُّ اهتمامه على لفتك إلى أسرار الجمال في هذا النص، فتصبح بمعاشرة الجمال جميلاً. أما إذا كان قارئ القرآن قادماً من فاقة روحيّة وماديّة، فما الذي نتوقعه؟ فهو لن يرى في النصّ إلا صورة لحرمانه وكَبْته وجهله وسوء خلقه وقحط بيئته. وعندئذ يُطيل المقام في آيات الجنة والحور العين الكواعب الأبكار، وأنهار الخمرة والعسل، كما سيطيل المكوث في آيات الرجم وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، وفي ضرب المرأة وتعدّد الزوجات. سيغدو الدين في يده الغليظة سيفاً وسوطاً ورشاشاً وآلة طغيان.. فكل مفسِّر أو مؤوِّل للنصّ المقدّس أو غير المقدّس يضع جزءاً من عقله وذائقته وتربيته وبيئته الثقافيّة والماديّة والاجتماعية فيه. وهذا قانون التلقّي. ولا يستطيع أحد فوق ظهر الأرض أن يزعم أن فهمه للنصّ يطابق قَصْدَ صاحبِه. وعلى ذلك فلكل مُسلمة ومسلم من المليار إسلامُهما الخاصّ الذي ينسجم مع قدرتهما على الفهم والتلقّي والتَّعليل والاجتهاد... إلخ. واذا كانت المشترَكاتُ كثيرةً بين الأفراد في الفهم كان لهم مذهب أو جماعة أو تيار. فإذا كان المشترَك أن القراءة سطحيّة حرفيّة تطمحُ للسُّلطة، وتنسجم مع أُميّة منتشرة في جماعة المتلقّين والمؤوِّلين والمفسّرين (أميّة في الحضارة وفي الاجتماع البشريّ وفي علوم الحياة وفي اللغة)، أصبح النصّ البليغ في أيدي هؤلاء الظاهريّين الحَرْفيين نصّاً ركيكاً هجوميّاً، بمقاصدَ متطرّفة.
وإذا كان الأمر غير ذلك، فلمَ استطاع أهل التصوف إذن، أن يرقوا بفهم القرآن بحيث تناولوه بالتَّنزيه وبالمجاز وبالإشارة؟ وكيف استخلصوا منه الأخلاقَ العالية والمعنى الرفيع؟ وكيف حرّروا اللغة القرآنيّة من إسارها الزمانيّ والمكانيّ بحيث تغدو أساطيرُ الأوَّلين محضَ مسار في تهذيب النفس والسَّيْر والسُّلوك والبحث عن الحقيقة؟ فالثورة التي أحدثها المتصوّفة في تناول القرآن (الثورة اللغويّة التي توازت مع الثورة اللغوية للإسلام) رفعت أناسها فوق الطواف الحسيّ والرجم العينيّ، إلى الطواف في الحب ورجم الظنون والخواطر التي تُفسد الإشراق.
وكيف يمكن أن نساوي مثلاً بين داعيةٍ كان يتحدث عن الجنة كمبغىً وبين صوفيٍّ قرأ الآيات نفسَها ولم يلفته أي مخيالٍ جنسيّ؟
لَيخيَّل إليّ أن النصّ أدهى من متلقّيه. وأنه يغدر به ويكيد ما قدر. وإذا ما دعا الربُّ نفسَه بخير الماكرين، فإن نصه المستغلِق هذا ليس سوى مكّارٍ لا يمنح أسراره الا لمن اتَّخذ عُدَّته من التحضُّر والمعرفة الدنيويّة والحسيّة والروحيّة والثقافيّة. فالجفاةُ الأعراب الذين نعتهم القرآن بأنّهم أشدُّ كفراً، وممَّن لم تمسس الحضارة لا أجسادهم ولا أرواحهم لن يقدروا على اجتياز امتحان مقاربة النصّ المقدَّس.
فلا نُنهِكْ جيادَنا في البحث في النُّصوص الدينيَّة وما كُتب على حواشيها، بل لنبحث في الذرائع التي تدعونا الى ترميم هذا الصدع العظيم. علينا بالتَّربية والتعليم فنعيد من خلالهما الروافع التي تنهض بالهمّة وبالإبداع وبإنسانية الإنسان!
دعونا لا نفقد الأمل..!