الـثـورات المـغـدورة

ليست كل الثورات ناجحة ويمكن أن تحقق أهدافها، رغم تضحيات شعوبها وبسالة القائمين عليها، وليست كل الاحتجاجات الشعبية قادرة على الاطاحة بخصوم أهدافها وأعداء تطلعاتها رغم عدالة مطالبها وشرعية أدواتها، فالثورة والانتفاضة علم وعمل وليست مجرد احتجاجات عفوية عبثية، بل لها دوافع وشروط للنجاح من أجل الوصول الى ما تعمل من أجله، فالشعب الفلسطيني خاض تجارب كفاحية باسلة ودوافعها نبيلة ولكنها لم تحقق نجاحاتها المطلوبة في دحر المشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي وهزيمته، رغم ظُلمه وتطرفه وفقدانه للعدالة والمنطق الانساني، والشعوب العربية كافة أخفقت في معركة استكمال الحرية والاستقلال والديمقراطية والتنمية وشيوع العدالة والمساواة لكل مواطنيها، فالنظام العربي برمته بقي أسيراً لمنطق السلطة ومصالح الطائفة والعائلة والاحادية والفردية، وتسلط اللون الواحد والزعيم الاوحد، وما انفجار الربيع العربي سوى تعبير عن رفض هذه الشعوب للعناوين السائدة :

1- للفقر والحاجة وفقدان الخدمات وعدم توافر فرص العمل وغياب الامن الشخصي والاجتماعي والحياتي للفرد المواطن .

2- فقدان الديمقراطية والتعددية وحقوق الانسان والمساواة في المواطنة وغياب الشراكة وتداول السلطة .

فالعوامل الموضوعية المحفزة للاحتجاجات والانتفاضة والثورة ناضجة ومتوافرة وهذا هو العامل الاول والضروري للمطالبة بالتغيير وشرعية هذا التغيير، وهذا ما حصل في تجارب تونس ومصر وليبيا واليمن، ولكن السؤال الجوهري لماذا أخفقت هذه التجارب في استكمال خطواتها والتراجع عن أهدافها العملية، ولماذا دفع القائمون والمحرضون وقادة انتفاضات الربيع العربي حياتهم بالاغتيال الجسدي والسياسي والمعنوي، وبعضهم بات نزيلاً في السجون رغم أن الفضل في التغيير يعود لهؤلاء الشباب الذين تم الغدر بهم ولم يحققوا مطالبهم وأصبحوا على الهامش وعلى رصيف الاحداث، وعاد العسكر، أو القوى التقليدية، أو شرائح الشد العكسي، الى موقع صنع القرار بدلاً من أصحاب الاتجاهات الديمقراطية والتعددية الذين فجروا الثورة وقادوا الاحتجاجات ؟؟ .

الجواب يعود الى غياب الاحزاب والتنظيمات والتعددية، ففي مصر عادت قوى الشد العكسي لتولي الوظائف وجماعة مبارك هم سادة صناديق الاقتراع وجنوا حصيلتها بالتحالف مع رجال الاعمال وأثرياء السوق، وفي ليبيا لم يعد ثمة نظام أو فئة أو شريحة قادرة على فرض سياستها أو برنامجها أو ادارتها، وهكذا في اليمن، وفي العراق وسوريا ليست أفضل حالاً، بينما في تونس والمغرب قطعوا شوطاً في ارساء قيم التعددية والاحتكام الى صناديق الاقتراع لسبب جوهري يعود الى وجود أحزاب سياسية نشطة وبات لها قواعد ومؤيدين وسياسات، ولم يقتصر حضور الاحزاب على أحزاب التيار الاسلامي كما هو الحال في باقي بلدان الربيع العربي، فأحزاب التيار الاسلامي جنت ثمار الربيع العربي، لأنها وحدها التي كانت فاعلة ومصرحا لها بالعمل، ولذلك كسبت نتائج صناديق الاقتراع في أول جولة انتخابية، ولكن بعد ادارتهم للحكم أو للحكومات كما حصل في مصر وتونس وليبيا، تراجع الجمهور عن الانحياز لهم، بل ووقف ضدهم كما حصل في مصر وتراجع تأثيرهم كما حصل في كل من تونس والمغرب .

وهذا يعني بوضوح أن العامل الموضوعي المحرك والمحرض للاحتجاجات، وحده لا يكفي، بل يجب توفر العامل الذاتي الذي يقود الاحداث ويوجه الجماهير ويسلحها ببرامج ومعطيات ومطالب لكل خطوة ولكل منعطف سياسي وعند كل انجاز أو اخفاق، فالاحزاب السياسية تعني أول ما تعنيه أنها تُنظم الجمهور وتقوده وتقدم له بوصلة العمل والتوجهات نحو الخطوة أو الخطوات التالية .

لقد تم ضرب الاحزاب والتنظيمات والتيارات السياسية المختلفة في العالم العربي سواء اليسارية أو القومية أو الليبرالية وتمزيقها واضعافها وشل دورها وفعاليتها طوال مرحلة الحرب الباردة حتى لدى تلك البلدان التي كانت تدعى بالقومية والتقدمية، كانت فردية متسلطة ولم تحقق انجازات يمكن المباهاة بها، ولكن حتى نكون منصفين هذا لا يعود فقط لفشل تلك الانظمة بل يعود للبلدان الاستعمارية المعادية التي لم توفر لها فرص الاستقرار، وهذا ما حصل مع عبد الناصر وحافظ الاسد وصدام حسين الذين افتقدوا للراحة أو للتفرغ للنهوض ببلدانهم، سواء بسبب سياسات واجراءات العدو الاسرائيلي المباشر، أو حتى من قبل الولايات المتحدة وأوروبا، ناهيك عن التناحر القومي بين العرب وكل من تركيا وايران والبلدان الافريقية، الذي استنزف الموارد والوقت وخلّف الاحقاد القومية الثنائية بين بعض البلدان العربية وجيرانهم.

الثورات المغدورة في العالم العربي تفوق الثورات الناجحة المحققة، إن لم نقل، إن تاريخ الثورات في العالم العربي هو تاريخ تضحيات شعوبها، بدون أن تحقق انجازاتها أونيل أهدافها، وها هي ثورة الربيع العربي ما زالت في خضم المواجهة والمعاناة والقتل والاعدامات المتبادلة بلا رقيب وبلا حساب لقيمة الإنسان .