بين «أفلاطون» و«فهد أبو العثم»

يذكرنا كتاب الاستاذ «فهد ابو العثم» القاضي في المحكمة الدستورية ونائب رئيسها: «القضاء الدستوري بين النظرية والتطبيق»، بكتابين للفيلسوف اليوناني افلاطون، هما: «الجمهورية» و»القوانين» اللذين ترجما الى العربية (الاول ترجمه حنا خباز ثم فؤاد زكريا، والثاني ترجمه حسن ظاظا). وهو يذكرنا بهما معا لانه جمع بين منهجي الكتابين في سفره القيم الذي هو سادس اسفاره المنشودة في الملأ، فضلا عن ابحاثه المنشورة في العربية والانجليزية، ومشاريع القوانين التي وضعها وسائر تجاربه الطويلة في القضاء والوزارة والاستشارات القانونية.
لقد عُني افلاطون في جمهوريته بالمثال وجعله مرجعا يُحتكم اليه. لكنه حين كتب «القوانين» في مرحلة متقدمة من عمره، جعل «الواقع» مرجعا ايضا، وهذا هو الذي قام به استاذنا فهد ابو العثم في كتابه الاخير الذي تدور ابحاثه بين النظرية والتطبيق والذي انجزه بعد تجربته قرابة عقد من الزمان في رحاب محكمة العدل العليا رئيساً لهيئتها، وفي الجامعة العربية رئيساً للمحكمة الادارية العليا في القاهرة، ثم في موقعه الذي يتبوأه الآن.
انه وان صرّح الاستاذ ابو العثم في مقدمته بانه لا يقوم ببحث فلسفي في كتابه القيم هذا، وانه انما «يركز على الجانب العملي للقانون الدستوري، وعلى الاحاطة بالاجراءات التطبيقية اللازمة لتنفيذ احكامه، بعيدا عن تاريخ نظريات هذا القانون وكيفية الوصول اليها الا بالقدر الذي يسعف في الوصول الى اعطاء الصورة الحقيقية للجوانب العملية لتلك النظريات»، فان مما لا بد ان يلحظه قارئ الكتاب ان المؤلف كان يرى الى التطبيق من خلال النظرية ويرى الى النظرية من خلال التطبيق، وتلك هي واقعية النظر التي يحتاجها العمران البشري، والتي تحقق ما يصفه المؤلف الكريم بالانسجام في العلاقات الاجتماعية في جميع مناحي الحياة.. هذا الانسجام (التوازن) الذي إنما يتم بفعل منظومة قانونية تحمل في طياتها طابع الالزام ويكون من شأنها تنظيم الروابط بين افراد المجتمع.
ويقول الاستاذ ابو العثم: «ان تنظيم هذه العلاقات والروابط ليس مقتصرا على الافراد والهيئات الاجتماعية ولكنه ينسحب ايضا على الهيئات العامة والسلطات الحاكمة، الامر الذي يؤدي الى استقرار تلك العلاقات والى السير المنتظم للحياة في المجتمع».
الا ان سلطة وضع تلك القوانين - كما يقول الاستاذ ابو العثم - قد يُساء استخدامها، او يُتعسّف في ممارستها او يحدث اختلافات في مفاهيمها او دلالاتها.. وهنا لا بد من وقاية النظام العام بفرض قيود ذات طبيعة خاصة تجد اساسها في قانون أعلى، وهو ما يُطلق عليه الدستور او القانون الاساسي».
واذ نكتفي من مقدمة الكتاب بهذه الاضاءات التي نرجو ان تكون حافزا الى قراءته كله والافادة القصوى منه، فاننا نورد هنا عنوانات فصول الكتاب لعمق دلالتها على انعكاس تجارب المؤلف وثقافته الواسعة فيه. فثمة باب عن «المبادئ الدستورية العامة»، وآخر عن «الضمانات القانونية لحماية قواعد القانون الدستوري»، وثالث عن «الرقابة على دستورية القوانين» ورابع عن «اجراءات الدعوى الدستورية» وخامس عن «آثار الاحكام الصادرة في الدعوى الدستورية» وسادس عن «تفسير نُصوص الدستور» وسابع عن «الرقابة على دستورية القوانين في النظام الدستوري الأردني»، وثامن عن «الطعن بعدم الدستورية واجراءاته»، ثم يأتي بعد ذلك باب في «التطبيقات القضائية».
وغير خاف ما يتسم به الكتاب من شمول ومن دقة في آن. وانه يقدم انموذجاً للدراسة المستغرقة التي لا يند عن اضوائها صغيرة ولا كبيرة.
واذا كان الشيء بالشيء يذكر، فان مما نتمناه على المشتغلين بالتشريع الاسلامي (الذي هو المصدر الاعلى لكل دستور عربي)، ان يهتموا بشرعية الاحكام اهتمام استاذنا فهد أبوالعثم بدستورية القوانين».
وبعد، فأنا أخوض هنا في حقل له في بلدنا الحبيب روّاده وفرسانه (لنذكر مثلا - الى جانب مؤلفنا الكريم - موسى الساكت رحمه الله، وعلي النعسان، وطاهر حكمت، ومحمد الحموري)، ولقد يشفع لي اني أُحب العبارة الأدبية الرائقة، وقد كان الكتاب حافلا بها، واني احب الحكمة التي تقود اليها التجارب المديدات، وقد كان الكتاب دليلا عليها واني اكبر النزاهة والموضوعية، وقد كان المؤلف رائداً فيهما.
وان ذلك هو حسبُنا من هذا الكتاب القيّم ومن مؤلفه الكريم.
وبالله وحده التوفيق