عن العرب والعولَمَة

ابراهيم العجلوني

 

إن من اعجب العجب ان احكام العولمة الثقافية لا تنطبق او لا يُراد لها ان تنطبق الا على البلدان العربية الاسلامية. اما اوروبا واميركا فان شعوبها غير معنية بالتنميط الثقافي للعولمة، بل هي مستمسكة بخصوصياتها اشد الاستمساك، معتصمة بخصائصها الثقافية اشد الاعتصام.

إنه لا احد يتهم الانجليز اذا ما ارادوا ان يبقوا انجليزاً بالانغلاق والتزمت وضيق الافق. ولا احد يتهم الفرنسيين، ولا الألمان، ولا الطليان بشيء من ذلك، ان هم حافظوا على اصالتهم الثقافية، واهتموا بلغاتهم القومية وآدابهم، وفنونهم الاصيلة، وعقائدهم.
إن هذا كله غير محظور عليهم بحال، بل هو مما يفخرون به ويُمدحون عليه. ولن نجد شعبا في الارض الا وهو يعلن انتماءه الى اصوله الحضارية دون ان يخشى ابناؤه ان يوصفوا بالتخلف او الرجعية او الماضوية او ما شئت من هذه المترادفات.
اما نحن العرب والمسلمين فنحن مدعوون دون شعوب الارض الى ترك قرآننا وعربيتنا وآدابنا وأخلاقنا وكل ما يجعلنا عربا، والى ان ننقطع عن تاريخنا وحضارتنا؛ فان رفضنا هذه الدعوة الخبيثة فان معجما من التهم المعجبة سوف ينبعث في وجوهنا، ولا سيما من اولئك الذين صُنعوا على أعين دهاقنة العولمة وأُشربوا مفاهيمها وأُرسلوا في مآربها واعين أو ذاهلين.

لقد بلغت اليابان من الرقي درجة متقدمة لا يماري فيها عاقل ولا يملك ان يتجاهلها متجاهل، ولعلهم ان يتفوقوا من قريب على الولايات المتحدة الأميركية التي ضربتهم في هيروشيما ونكازاكي ضربة كفيلة بوأد كل متطلع فيهم الى النهوض مجرد النهوض من كبوتهم، لكن الياباني المعاصر شديد التمسك بقوميته وخصوصية ثقافته واخلاق آبائه واجداده، وهو يقتصر على اخذه من الغرب على ما يفيده في نهضته العلمية وعلى ما يجعله مرهون الجانب عزيزا في موطنه.

كتب سائح غربي زار اليابان قبل خمسة وثمانين عاما ان الماضي لا يزال عند اليابانيين - وفي جميع طبقاتهم - معظما مقدسا (انظر: لماذا تأخر المسلمون، شكيب أرسلان، ص54) لانهم يجدون ما يعزز شعورهم بقيمتهم الحاضرة، فتراهم يكافحون بوسائل المدنية الحديثة التي لا سبيل الى الحياة بدونها لكي ينبذوا كل «تغريب» بمجرد ما يجدون انفسهم في غنى عنه، ويعودون بعد اكثر استمساكا بشعورهم القومي الخالص الذي به يعتقدون أنهم المتميزون.

إن المعادلة واضحة في ذهن الياباني المعاصر، فهو حريص على تفوقه العلمي والاقتصادي وحريص في الوقت نفسه على اصالته الحضارية وثقافة أمته، ولا يختلف الأمر مع الفرنسي والايطالي والروسي والإنجليزي. بل ان شخصية يهودية مثل اينشتاين كانت مخلصة للتوراة والتلمود مستمسكة بهما ربما اكثر من استمساكها بالنظرية النسبية العامة والخاصة اللتين ارتبطتا بها في تاريخ العلوم.

إنها قاعدة مطّردة في الأُمم، إلاّ فينا نحن العرب، فان علينا ان ننتزع انفسنا من اسلامنا وعربيتنا وثقافتنا حتى يُسمح لنا بشرف اللحاق بهذه العولمة التي يبدو انها صُممت خصيصاً لاخراجنا من جلودنا، او لطمس ملامحنا وجعلنا مجرد أرقام في حساباتها..
على اننا، وبقدر ما نأسى لانخداع طوائف منا بهذا الكيد المتعاظم، فإننا نطمئن الى حقيقة انه لن يقف في وجه هذا الاستعمار الجديد، ولن يدفع أذاه عن البشرية الا هذه الأُمّة الوسط الشاهدة على الناس، والتي انما تلقى العنت وتجدُ الرَّهق بسبب ذلك.. وكم يستبطنُ ذلك من مبشّرات على ظاهر ما فيه من آلام..