هموم إدارية: جزر معزولة

كنت مع زميل لي في زيارة لأحد الأصدقاء الذي يرقد على سرير الشفاء في أحد المستشفيات لعارض صحي ألمّ به، ما استدعى استشارة عدد من الأطباء، ومن اختصاصات مختلفة، للوقوف على تشخيص لعلته. لكن بالرغم من تميز هؤلاء الأطباء كل في مجاله، والإمكانات المساعدة المتوفرة بين أيديهم، إلا أنهم عجزوا عن الوصول إلى إجابة شافية تريح المريض الذي فاجأني بملاحظة مهمة: "ما حد منهم بحكي مع الثاني".
لقد وضع بهذه الجملة إصبعه على أحد جروح قطاعنا الطبي الكثيرة. فكليات الطب تغرس في أذهان طلبتها أن مجمل العملية العلاجية تتمحور حول الطبيب "الفرد". وتتعزز هذه القناعة لدى الأطباء كلما تقدموا في تدريبهم، متجاهلين أهمية المشاركة مع بقية عناصر العملية العلاجية؛ سواء من زملاء التخصص الواحد، أو من تخصصات أخرى، محاولين أن يكون تفاعلهم مع الآخرين في حدوده الدنيا.
وما ينطبق هنا على الأطباء "الأفراد"، ينسحب على الأقسام والوحدات المختلفة في المؤسسات الطبية؛ إذ تنمو هذه الوحدات الإدارية وتترعرع وتتصرف كوحدات مستقلة منغلقة على ذواتها، تحاول أن تظفر بالنصيب الأكبر من كعكة الموارد في المؤسسة، من دون إيلاء كبير اهتمام لحاجات الآخرين، أو حتى تنسيق الجهود معهم.
عندما يعمل الجميع كما لو كان كل منهم في جزيرة معزولة؛ من دون التنسيق مع الآخرين، فإننا ننتج نظاما صحيا مشوها وأنانيا ومرتفع الكلفة، يتمحور حول ذواتنا لا حول المريض الذي يجب أن يكون محور جميع نشاطاتنا، وليجد المرضى أنفسهم عالقين بين الآراء المتباينة، وربما المتضادة، لخبراء في التخصصات المختلفة، كلّ واحد منهم نظر لعلل هؤلاء المرضى من زاويته الخاصة، متناسيا وجود زوايا أخرى لا بد من النظر من خلالها لرسم صورة كاملة. كما تجد الإدارات نفسها تدير "كونفيدراليات" متنافسة، بعيدة كل البعد عن ثقافة التعاون والتكامل.
التغيير يبدأ من الجامعة، وربما قبلها؛ وذلك من خلال تعزيز ثقافة تُعلي من قيم المشاركة، والعمل بروح الفريق. ثم بالتأسيس لفرق طبية "أفقية البنية"، تكون عابرة للتخصصات والأقسام الإدارية، تذوب فيها الـ"أنا"، لمصلحة الجماعة.
يجب أن نبني نظاما طبيا شبيها بالأوركسترا المتناغمة، التي يعرف كل عضو فيها دوره ضمن المجموعة التي تعمل بتناسق وتناغم لخلق سيمفونية جميلة، لا مطبخ كثير الطهاة، وكل طاه يغني على ليلاه؛ أقصد طبقه!