الإعلام وسط عاصفة الفساد
أحسنت الحكومة حينما فتحت بوابة مكافحة الفساد على مصراعيها، ولو على الأقل حينما جعلت من هذا الملف القضية رقم واحد في أولويات الأجندة السياسية والاجتماعية من خلال وسائل الإعلام وسط عاصفة الحراك الاحتجاجي غير المسبوق بأبعاده المحلية والإقليمية. لكن السؤال الذي حان وقته، والذي قد يخرجنا من قصة فساد سياسي آخر: ما هو موقع الإعلام وسط هذه العاصفة؟ هل هو مجرد أداة حكومية في إدارة أزمة تفريغ الاحتجاج، أم أننا أمام تحول حقيقي وجاد سوف يحسم خلال الأسابيع والشهور المقبلة حينما يأتي حساب البيدر؟
الإدراك السياسي بأن مواجهة العواصف الاحتجاجية والانفعالات الحادة في الشارع بهجوم كاسح على الفساد، برموزه وأنشطته ومنابعه، فيه الكثير من الذكاء، لأن هذا الملف هو الأكثر قدرة على استيعاب فائض الاحتقان في الشارع والانفعالات الحادة. ولكن كل الخطورة، بل ومنتهى الفساد السياسي أن تتحول هذه الحركة إلى مجرد تعبئة إعلامية قصدها تغيير أولويات الناس، ولا تعبر عن اتجاه أصيل في وقف وكشف هذه الظاهرة التي تعد الأخطر في تحديد مصير الدول والمجتمعات، وبدل أن يكون الإعلام أداة متقدمة ورأس الحربة في المعركة ضد الفساد، يتحول إلى أداة من أدوات تضليل الرأي العام والإفساد.
إلى هذا الحد كيف تقيّم قدرات الإعلام الاردني في مكافحة الفساد، وما تقييم أداء هذه الوسائل وفق المعايير المعروفة في دور وسائل الإعلام في إدارة الشفافية والمساءلة؟ ومع افتراض حسن النوايا، فإن البيئتين العامة والداخلية لوسائل الإعلام المحلية ما تزالان توصفان بضعف عام في تمثل الأدوات المهنية، كما هو حال الضوابط الأخلاقية. فمن المؤسف أن تسريبات منتظرة عن ملفات فساد تتحدث عن تورط إعلاميين، وأحيانا مؤسسات إعلامية. والأقسى أن نجد أطرافا في المجتمع الإعلامي تنقسم في الصراع بين مراكز قوى متورطة وتدور حولها الشبهات. يا ترى، من يجرؤ على استرجاع الاصطفافات الإعلامية والتخندق والمعارك التي شهدتها الصحف والمواقع الالكترونية خلال السنوات الأربع الاخيرة في ضوء الحقائق التي تنكشف هذه الأيام؟
لم نؤسس لمنظومة قانونية داعمة لعمل الإعلاميين ومؤسساتهم في القيام بالوظيفة الرقابية، فمعظم التشريعات الناظمة للعمل الإعلامي وذات الصلة به ليست صديقة لهذه المهمة، وعلى رأسها القانون العتيد "الحق في الحصول على المعلومات"، والذي يوصف بـ"قانون حجب المعلومات"، بينما حدّث ولا حرج عن القدرات المهنية وما يرتبط بها من تقاليد ومعايير. لقد اعتدنا أن يركب الإعلام الموجة كلما تم الكشف عن ملف فساد لأهداف سياسية أو لتصفية حساب بين القوى المتصارعة على المصالح. وباستثناء حالات محدودة، فإننا أمام ممارسات إعلامية غير مؤسسة على تقاليد المهنة وقواعدها في الاستقصاء والبحث والكشف، كما يحدث في كل بلاد الدنيا التي تبني فيها المؤسسات الإعلامية حضورها الإعلامي والمجتمعي وقوتها السياسية من قدرتها على تمثل هذه المبادئ كجزء أصيل من ممارستها.
لدينا تاريخ مخجل لوسائل إعلام جديدة وتقليدية على حد سواء في مساندة الفساد والتستر عليه، ولطالما جعلت وسائل إعلام من فاسدين أبطالا ورموزا، وجعلت من فاسدين مفاتيح للإصلاح والتحديث ومن دونهم سنعود للعصور المظلمة، ولطالما باعت علينا وسائل إعلام فاسدين آخرين بأنهم حماة للوطن وأساطين في الانتماء.