حرب القرية الصغيرة !

العالم قرية صغيرة ، هكذا توقعها عالم السوسيولوجي الكندي الأصل مارشال ماك لوهان في كتابه الشهير « الحرب والسلام في القرية الكونية » وهكذا هو بالفعل ، مع الاحترام لوجهة نظر السياسي الأمريكي من أصل بولندي « زبغنيو برجنسكي » الذي فضل تعبير المدينة الكونية بدلا من تعبير العولمة والقرية الكونية الصغيرة على اعتبار أن حياة ومجتمع القرية ليس مناسبا لوصف التشابكات الدولية في عصر التكنولوجيا الإلكترونية.
المهم أن العالم اليوم يعيش مرحلة العقل الإلكتروني الموصول بشبكة من الأعصاب الممتدة إلى أجزاء الجسم الكوني ، حتى إذا ما نشبت أزمة هنا ، أو حرب هناك جاءت الإشارات لتشغل بال الكل وتنذرهم بالخطر ، وقد يتطلب الأمر أن تأتي الإشارات بواسطة قادة أو ساسة أو مفكرين يلفتون النظر تجاه قضية معينة من أجل التفاعل والتضامن للتصدي لها ، ووضع حد لمخاطرها.
وليس أفضل مما قاله جلالة الملك عبدالله الثاني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ، وما عقد على هامشها من لقاءات ومباحثات للتدليل على أن العالم كان بحاجة لمن يصف له حقيقة ما يجري ، ولا يتردد في تسميته بحرب عالمية ثالثة ، فهي بالفعل عالمية بشكل مختلف عن الحرب العالمية الأولى والثانية ، بل هي أكثر خطورة لأنها أكثر تعقيدا وغموضا ، سواء في أسبابها أو وأسلحتها أو ضحاياها أو نتائجها.
هي حرب دائرة في عالم القرية الصغيرة ، تستخدم تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات والسلاح أيضا ، وغرفة عملياتها هي ذات العقل الإلكتروني الذي يحتفظ بالذاكرة التاريخية بما في ذلك الأديان والمذاهب والأعراق وغيرها مما يتحكم في اتجاهات الإنسان ورغباته وموروثاته السلبية والايجابية ، وإلا كيف يمكن تفسير هذا المستوى من الانحطاط البشري حين يغلف القتل والدمار بنصوص دينية محرفة عن سياقها ومرادها العظيم ؟
تلك حرب تستهدف العقل البشري من حيث هو عقل إلكتروني مجرد من الأحاسيس ، وذلك ما أراد جلالة الملك أن يلفت الانتباه إليه ، فلا يجوز أن يفهم الوضع الراهن بمعايير قديمة ، وتتخذ المواقف على أساس المصالح ولعبة النفط والغاز والقواعد العسكرية ، فقد تجاوزت حرب الخوارج كل الحدود ، والمدن والقرى تئن تحت وطأة الظلم والتخلف وشهوة السلطة والتعذيب ، أما الضحايا من اللاجئين فقد وضعوا العالم أمام اختبار أخلاقي خطير ، وأصبحت الدول كبيرها وصغيرها ، قويها وضعيفها مدعوة للدفاع عن آدميتها.
من هنا تكمن أهمية تحديد طبيعة تلك الحرب بالطريقة التي وصفها جلالة الملك ، وبالدعوة إلى تكافل الأمم المتحدة لدرء مخاطرها ، ووأد أسبابها ، وخلق نظام عالمي جديد يسوده العدل والمساواة في الكرامة الإنسانية وفي التنمية والأمن ، فلا يمكن أن تكون الفوارق كبيرة في قرية صغيرة.