ثروات برسم المجهول

تقع الثروة، ومن قبلها الإنسان، فريسة للضياع والهدر مع ارتفاع صوت الرصاص. وتشكل الحالة اليمنية بمآلاتها الأخيرة نموذجا صارخا على هذه الخسارات التي تتراكم. ورغم أن الثروة سبب لاختلاق الحروب، إلا أنها أيضا أداة المتحاربين وفقا لما جرى في جنوب اليمن، الذي يضم كنوزا لا حصر لها.
في ميناء بلحاف بمحافظة شبوة جنوب شرق اليمن، ثمة صورة تبعث على الحزن لفرط حجم الخسائر فيها. فقد سيطرت مليشيات الحوثي وقوات الرئيس المخلوع في آذار (مارس) الماضي على الميناء لمدة شهر. ثم تمكنت المقاومة الشعبية، مدعومة بقصف التحالف العربي، من استرداده، ليكون أول المواقع الاستراتيجية التي يتم استردادها، لكنه بقي على حال الإغلاق منذ نحو ستة أشهر.
الشركة اليمنية للغاز الطبيعي المسال أجلت 7 آلاف من موظفيها في نيسان (أبريل) الماضي، وإلى اليوم لم تعد للميناء حيويته ونشاطه. ثروة بمليارات الدولارات مجمدة بالكامل، وفي محيطها تتناثر البطالة والأحوال المعيشية الصعبة لأبناء المنطقة الذين حموا هذه الثروة ومنعوا نهبها، بعد أن سلمت إدارة الشركة المفاتيح وغادرت.
ويؤكد مسؤولون في السلطة المحلية بمنطقة الرضوم التي تشمل ميناء بلحاف أن إيرادات تصدير الغاز تقارب 4 مليارات دولار سنويا، نصفها كان يذهب للحكومة في صنعاء، والنصف الآخر للمساهمين في المشروع، في مقدمتهم المستثمرون الفرنسيون والأميركيون. ويعد هذا المشروع الصناعي والاستثماري الأكبر في تاريخ اليمن، ولذلك فإن تجميده على هذا النحو يعني خسارة مفتوحة لليمن كله، وليس لأبناء محافظة شبوة فقط.
وفوق الغاز، يوجد في شبوة أفضل أنواع العسل اليمني الشهير. وبسبب الحرب والمواجهات مع مليشيات الحوثي وقوات الرئيس المخلوع، جاء الموسم الحالي شحيحا. ويؤكد مربو النحل أن موسم جني عسل السدر بدأ في منتصف أيلول (سبتمبر) الماضي، لكن النحل ضعيف، إذ لم يتم نقله كما ينبغي في الأشهر الماضية، بسبب نقص المحروقات الحاد؛ علاوة على أن القذائف والصواريخ عملت على تشتيت النحل أيضا. وتشترك مع شبوة في هذا الهدر المستمر لثروة العسل محافظة حضرموت التي سيطر عليها "أنصار الشريعة"، فجاء عسل هذه المحافظة أيضا دون نصف مستوى الإنتاج الاعتيادي كل عام.
وفي محافظة شبوة التي يصل تعداد سكانها إلى نصف مليون إنسان، يبدو التكيف أمرا قاسيا مع هكذا ظروف. فالأطفال بلا تعليم، وشبكة الطرق مدمرة، ومثلها المستشفيات، بينما تقف السلطة المحلية والمقاومة عاجزة عن فعل شيء لإعادة الحياة للمدن والقرى المتناثرة. كما تعرض المطاران المدني والعسكري في عتق بمركز المحافظة لأعمال تخريب ونهب واسعة. وتحاول المقاومة هناك بعد إصلاح المدارج الأرضيّة، استئناف تشغيل المطارين.
لكن ما الذي جرى لشباب شبوة الذين كانوا شعلة في النشاط التجاري والاقتصادي؟ بعضهم اتجه إلى رعي الأغنام -ومحافظتهم تملك كل هذه الكنوز- وجلهم يرغب اليوم في التسجيل ضمن صفوف التشكيلات العسكرية والأمنية التي يجري إعدادها، وحتى هؤلاء لا رعاية مالية لهم، ويتكيفون مع أوضاعهم الجديدة بأقل القليل، وبقدرات ذاتية لا تساعد في تمديد فترة الصمود.
يبدو المشهد هكذا في كل أرجاء اليمن؛ فرصاص المواجهات أتى على كل شيء، وتمدد الحوثيين حوّل اليمن إلى معسكر كبير، حلّت فيه العسكرة مكان الاقتصاد، وسط تبديد مفتوح للثروات. ولا يجد المرء إجابات كافية بخصوص موعد استئناف الحياة من جديد لنحو 25 مليون يمني.