كسر التابوهات لتنفيذ خطاب الملك

قدم جلالة الملك عبدالله الثاني في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة خريطة طريق للتعامل مع التطرف والإرهاب، وترسيخ قيم التسامح والتعايش ونبذ خطاب الكراهية والطائفية.
خطة العمل تتضمن سبع خطوات وتتلخص بالعودة إلى أصول وجوهر الروح المشتركة للأديان، فما يجمعهم أكثر بكثير مما يفرقهم، وتغير الخطاب والابتعاد عن الترهيب، والدعوة إلى ترجمة المعتقدات إلى أفعال، فلا يتوقف الناس عند الفرائض.
وأبعد من ذلك؛ فمن المهم تعظيم صوت الاعتدال بدل أن تحتكر وسائل إعلامنا الأصوات المتطرفة، وأن نمضي في كشف خداع وزيف المتطرفين والإرهابيين وشهوتهم للسلطة.
ومن الخطوات الضرورية التي يراها الملك، التركيز على أن التسامح لا يقبل التطرف، ومطالبة المعتدلين من كل الأديان أن يتوحدوا ضد كل المتطرفين، مؤكداً على أن أكثر مكان يجسد الاحترام والتعايش هو مدينة القدس.
وآخر المحطات في خريطة الطريق التي رسمها الملك، كانت عن مفهوم "إنترنت الإنسانية".يقر الملك بشكل واضح أن معركة مواجهة المتطرفين والإرهابيين تدور رحاها في ميادين الفكر، ومبتغاها كسب العقول والقلوب.
والسؤال الذي يطرح الآن في الأردن وليس في هذا الكون والمجتمع الإنساني، كيف يتم ترجمة خريطة الطريق التي طرحها الملك إلى خطوات عمل وخطة تنفيذية، ما هي الإجراءات المطلوبة للتقدم الحثيث نحو تحقيق هذه الأهداف؟.
الشيء المؤكد أن هناك ما نفعله، وربما نستطيع أن نبدأ بخطوات بسيطة، لكنها مهمة، على سبيل المثال إزالة كل اليافطات التي تملأ الشوارع وترهب الناس بالدين، وأن نملك الشجاعة لنقول لأولئك الذين يخالفون قانون أمانة عمان والبلديات، أن الدين لا يعطيهم الحق بالتستر لبث الذعر بين الناس، وأن من ينزع هذه اليافطات ليس مارقاً.
وفي سياق مواجهة التطرف وبناء التعايش، آن الأوان أيضاً لمحاسبة كل خطيب مسجد يتجرأ بالدعاء ضد المسيحيين، فهؤلاء مواطنون يتمتعون بذات الحقوق، وهم ليسوا خارجين على القانون، وهم بناة للدولة، ويحتكمون لذات الدستور والقانون.
الأمر لا يتوقف على دور العبادة وإحساس بعض المتطرفين فيها أنه لا يجوز الاقتراب مما تقوله، وإنما هناك أولوية بشكل سريع لمتابعة المدارس والجامعات بدءاً من رياض الأطفال.كيف سيكون حال الأجيال القادمة إذا كان المعلم أو المعلمة لا يؤمنان بقيم التعايش الإنساني، ويغرسان في عقول الأطفال مفاهيم التطرف، ولا يتحدثان إلا في الترهيب وعذاب القبر بدلاً من المحبة والتسامح؟!.
مهمة وزارة التربية والجامعات ملحة، فحرية الرأي والتعبير لا تبيح إشاعة خطاب الكراهية والطائفية، ومن هنا فالسكوت عمّن يتباهون بالتحشيد ضد الآخر، وبث الكراهية علناً والتحريض على العنف، يعني تواطؤا ودعما لهذه الأصوات الخارجة على الدستور، ودور وزارة التربية والتعليم العالي مراجعة ومحاسبة أصوات التطرف "النشاز"، التي لا تقيم وزناً لقيم العيش المشترك والسلم الأهلي.
ولا يقل أهمية عن التعليم الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وما قاله الملك عن "إنترنت الإنسانية" يبدو في مواجهة إنترنت البغضاء والكراهية والتحريض على العنف.
ولا تبدو هذه المهمة سهلة بل شاقة، فالأمر لا يتوقف عند حدود التشريعات التي تقيّد هذه الأفعال المجرمة قانونا، والوضع ليس محصوراً بالإعلام بمختلف أشكاله، مطبوعا ومسموعا ومرئيا وإلكترونيا، وإنما نتحدث اليوم عن فضاء وسائل التواصل الاجتماعي التي سمحت لكل إنسان أن يصنع إعلامه على مقاسه، ووفقاً لهويته ورؤيته، وفي هذا الفضاء اللامتناهي تبث كل يوم ملايين الرسائل وآلاف الفيديوهات، وكثير منها يغذي ويؤجج الكراهية، ويدعو للقتل، وينشر مناظر الذبح والرعب والدم.
وباعتقادنا فإن هذا لا يحاصَر بالمساءلة القانونية وحدها وهي لا تكفي للمواجهة، بل يحتاج إلى مسؤولية وآليات رقابة مجتمعية تعزز من الحس والقيم الإنسانية في مواجهة خطاب التوحش.
خريطة الطريق التي قدمها الملك تحتاج إلى جرأة في التنفيذ وكسراً للتابوهات، وإلى إطلاق طاقات الذين حاصرتهم وأقصتهم الدولة لأنهم يغردون خارج السرب ولا ينصاعون للخطاب التقليدي.