ترجمة خطاب الملك لمواجهة الفكر المتطرف

يكاد يكون الملك عبدالله الثاني الزعيم الوحيد الذي يمتلك تصوراً ورؤية متكاملين للحرب على الإرهاب والتطرف. وقد تجلى ذلك ليس فقط بخطابه في الأمم المتحدة، وإنما أيضاً بمقارباته السابقة على الساحتين الوطنية والدولية.
يرى الملك أن الإرهاب والتطرف ليسا ظاهرة عسكرية وأمنية فقط، تشكل خطراً على الشعوب والدول، وإنما يذهب أبعد من ذلك، وفي رؤية متكاملة وشاملة يتحدث عن البعد الفكري والأيديولوجي للتطرف الذي يشكل خطراً ليس فقط على السلم الاجتماعي والدولي، بل وعلى مستقبل الأجيال والدول معاً.
الحرب الفكرية هي الأصعب والأخطر، لأن المتطرفين هم قطرة في محيط الصالحين، كما قال الملك. لكنهم يستخدمون أدوات تكنولوجية حديثة، ويلجأون إلى تفسيرات وتبريرات دينية في التغطية على أعمالهم الوحشية ومآربهم السياسية التي يرفضها الدين الإسلامي والغالبية الساحقة من المسلمين. وعليه، فإن التطرف هو حرب على السلام والمسلمين قبل أي شيء آخر. ومن ثم، فإن العبء الأكبر في محاربة التطرف، فكرياً وأيديولوجياً، يقع على عاتق المسلمين أنفسهم، كما قال الملك، بأنها حرب إسلامية-إسلامية تحاول قلة من المسلمين أن تخطف الدين الحقيقي تحقيقاً لمصالحها.
إن المقاربة الحالية، عالمياً وعربياً، لمحاربة التطرف، يغلب عليها الطابع السياسي والعسكري، ولا تولي الجانب الفكري الأهمية التي يستحق. وهذا ما ركز عليه الملك في خطابه؛ بأن الحرب الفكرية ستكون الأطول والأصعب، ولكنها الأكثر جوهرية في محاربة التطرف.
الأردن، دولة ومجتمعاً، برز ظهوره في الإقليم كدولة تسير بخطى ثابتة نحو الحداثة والاعتدال والديمقراطية والتقدم. وإذا لم يتم اجتثاث التطرف من جذوره، فإن هذه التجربة أو النموذج سيصبح مهدداً. ومنذ صعود التنظيمات المتطرفة في الجوار، وبخاصة تنظيم "داعش" في العراق وسورية، أعلنت الحكومة أنها تبنت استراتيجية وطنية لمحاربة التطرف بأبعاده الأمنية والسياسية والفكرية. ومن الواضح حتى الآن أن نجاح هذه الاستراتيجية يتجلى في البعد الأمني، والدليل على ذلك نعمة الأمن التي يتمتع بها الأردن. لكن يبدو أن النجاح الأمني أدى الى التراخي في الجوانب الفكرية والأيديولوجية. لا بل أريد أن أذهب أبعد من ذلك، لأقول: إنه لم تتم حتى الآن ترجمة "رؤية" الملك في محاربة التطرف والإرهاب إلى خطة متكاملة؛ فبعض مظاهر التطرف الفكري التي تابعناها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي من أردنيين تدل على إمكانية استغلال مشاعر الناس الدينية أحياناً والإقليمية أحياناً أخرى، والتلاعب بها.
قد تكون الحكومة أخطأت في عدم إشراك المجتمع، بمؤسساته المختلفة، مثل الأحزاب والمجتمع المدني، والبرلمان، والجامعات، والإعلام وغيرها، في استراتيجية مكافحة التطرف. وبعيداً عن المؤتمرات الاحتفالية والبيانات الرنانة، فإن المجتمع لم يكن جزءاً من استراتيجية محاربة التطرف، وهذا من أهم أسباب ضعفها وتراخيها. فالمؤسسات الحكومية مثقلة بأعباء العمل اليومي والروتيني، وهي ليست الأقدر على التواصل مع المجتمع بفئاته المختلفة.
لقد بات من الضروري إعادة النظر بالاستراتيجية الوطنية لمحاربة التطرف والإرهاب. إذ لم تعد محاربة التطرف ترفاً فكرياً، بل ضرورة لحماية قيم الدولة الأردنية ومستقبل أبنائنا، كما قال الملك في خطابه. إن الأدوات الحالية لمحاربة التطرف الفكري والقيمي أثبتت عدم قدرتها على مواجهة المخزون المتجذر للفكر المتطرف. والخطوة الأولى هي العمل على بلورة استراتيجية جديدة تترجم خريطة الطريق التي رسمها الملك في خطابه على المستوى الوطني. والاستراتيجية الناجحة يجب أن تكون تشاركية في التصميم والتنفيذ، وعليها أن تُفعّل الطاقات الشعبية الكامنة المعتدلة، التي يجب أن لا تبقى محايدة في المعركة مع الفكر المتطرف.