ابن الأرض

من حسنات المُدن أن قمرها يبدو أكبر وأوسع من قمر القُرى، وهذه حقيقة علمية تنتج عن خدعة بصرية بسيطة. فالعين حينما تراقب بدر المدينة المشرق؛ فإنها تقارنه بالبيوت الصغيرة من حوله، ولهذا سيبدو كبيراً. أما في القرى، فالقمر يبدو صغيراً؛ لأن العين تقارنه بالجبال الكبيرة، التي طلع من بينها. وسيبقى القمر قمراً، لمن يريد أن يقرأه بحب. الليلة سيكون قمرنا بداراً أيضاً. وسمي بدراً، لأنه يبادر بالشروق والشمس ما زالت في صحن السماء. وهذا القمر رغم بهائه، لم يكن يعجب العشاق القدماء، فقد كانوا لا يحبونه، سواء كان عمانياً واسعاً، أم عجلونياً ضيقاً، لأنه كان يحرمهم من حبيباتهم!، ويفضح لقاءاتهم السرية بهن، كما أنهم يفلسفون الأمر على أن من يلتقي بقمر أرضي وضّاء، كيف له أن يطالع صفحة السماء، محدقاً بقمر بعيد المنال! الفلكيون يسمون بدر هذه الليالي بقمر الحصادين، وهي تسمية لا تلائم واقعنا، لأننا على بوابة الخريف، فلا حصاد ولا رجاد (الرجد هو جمع السنابل المحصودة، ونقلها للبيدر من أجل الدرس). وقد يكون أن التسمية جاءتنا مترجمة، لأن هذا الوقت يكون حصاداً في بعض دول شرق أسيا، أو أمريكيا اللاتينية، حيث كان يمنحه البدر فرصة متابعة العمل ليلاً، بفضل نوره الوفير. في هذه الليلة الأيلولية، سيكتمل قمرنا كرغيف، ولأننا لا حصيدة لدينا، ولا قمح زرعنا، فسيعجبني أن أسامر قمري الممتلئ بعيداً عن المدينة، حتى لو خسرت بعضاً من حجمه، لأتفقد قمح قلبي من جديد، وأكيله صاعاً صاعا. ما يروقني أكثر من التسميات، أن إحدى النظريات الفلكية تدّعى أن القمر كان قطعةً من أمه الأرض، ثم انفصل عنها، لكنه ظل يدور حولها ومعها ولا يفارقها، وحتى الآن، ما زال يحاول كلما اقترب أن يسحب شيئاً من الماء إليه، علّ الحياة تدب فيه، ولهذا كان المد والجزر. أخذتنا الحياة بضوضائها وأنوارها الصاخبة، في هذا الزمن الأكول، وصرنا عشاقاً من نوع آخر، لا يجرؤ الواحد منا أن يرمي الريموت من يده، ويخرج ليساهر مع بهاء الليل، قمره القريب. بتنا لا نلقي بالاً للقمر، حتى لو كان بوسع ميدان فسيح، ولا نرفع رؤوسنا لقراءة السماء. قديماً قالوا عن الشيء الذي يذهب دون اقتناص في أوانه: أضيع من قمر الشتاء. واليوم هل سنقول عن هذا العمر الذي يمر دون أن نعيشه بحذافيره: أضيع من قمر عمان. -