نقلت صحيفة «هاآرتس» المحسوبة على اليسار في إسرائيل، وإن كان من الصحيح تصنيفها في خانة يسار الوسط، أكثر مما يمكن احتسابها على اليسار، الذي اندثر هو الآخر في دولة الاحتلال والعنصرية، التي تنزاح بتسارع لافت نحو اليمين المتطرف بجناحيه القومي والديني، خصوصاً منذ انقلاب أيّار 1977 الذي جاء بحزب الليكود إلى الحكم ولم يغادر هذا الحزب الفاشي الاستيطاني مركز الحكم إلاّ لمدة بسيطة تكاد لا تُذكر، عندما شكّل اسحق رابين حكومته في تسعينيات القرن الماضي، عقد خلالها اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير وبعد خمسة أعوام جاء ايهود باراك إلى السلطة على رأس حزب العمل، لم يلبث ان غادرها بسرعة ليترك الحكم لبنيامين نتنياهو، حيث عمل معه (باراك) وزيراً للدفاع، ومنظّراً لسياساته الاستيطانية والرافضة إلى أي تسوية مع السلطة الفلسطينية رغم كل تنازلات الأخيرة.
نقول: نقلت «هاآرتس» يوم أمس جملة من الأخبار المثيرة في اطار «خبر واحد»، يمكن للمرء المُدقّق في تفاصيله وصياغته، أن يخرج باستنتاجات وانطباعات عديدة، يحار في كيفية تفسيرها وإلى أي خانة بمقدوره تصنيفها، بعد أن امتلأ الفضاء الفلسطيني (بامتداده الإسرائيلي) بكثير من بالونات الاختبار والتسريبات والأقوال أو التصريحات المتناقضة، التي لا تلبث أن تبدّدها إعلانات النفي أو تلك المحمولة على تفسيرات عديدة، كما شهدنا خلال الأسبوع الماضيين عندما نُسِبَ إلى مصادر قريبة من مراكز صنع «القرار» (....) في السلطة، أن رئيسها سيُعلن في خطابه نهاية الشهر الحالي (الأربعاء 30 أيلول) إلغاء اتفاق أوسلو وحلّ السلطة وغيرها من القرارات الدراماتيكية التي لو صحّ انها ستُعلن، لكانت كفيلة بإحداث زلزال حقيقي في المنطقة، بصرف النظر عن مدى الأضرار أو الاحتمالات الضعيفة لحدوث تسونامي «سياسي» يدفع بالعواصم الغربية المُمّسِكة بالملف الفلسطيني، أن تطرح مبادرة تحفظ ماء وجه أصحاب السلطة أو تُحدِث تغييراً في السلوك الإسرائيلي المتمادي صلفاً وغطرسة واستيطاناً وخصوصاً استهتاراً بالسلطة الفلسطينية وتالياً كل العرب.
ما علينا..
«هاآرتس» لا يبدو أنها «غامرت» ببث خبر كهذا، بل هي تأكدت من مصادرها وأوردت أسماء ووقائع وأحداث، تؤكد روايتها وتحول دون نفيها أو على الأقل قيام الشخصيات والجهات التي تـم ذكرها في الخبر المثير، بتصحيح المعلومات او التقليل من حجم الدور الذي لعبته في هذا الشأن، لكنها لا تستطيع إنكار حدوثه او التنصل منه.. ولنبدأ بالعبارة التي نُسِبَت الى الرئيس الفلسطيني محمود عباس عندما حثّه اربعة دبلوماسيين اسرائيليين متقاعدين عملوا في الماضي كسفراء اسرائيل في باريس، التقوا عباس في العاصمة الفرنسية برعاية رئيس بلدية آن ادليغو قائلين له: «كوطنيين اسرائيليين.. نحن ندعم مساعي استئناف المفاوضات» ما دفع بعباس الى القول (حسب ما روى احد الأربعة وهو يهودا لانكري شاك): انا مستعد للقاء نتنياهو، ولكن (والقول ما يزال لعباس)... جهة ثالثة ليست اسرائيلية، هي التي تُعارض عقد اللقاء «وتمنع» حدوثه. (انتهى الاقتباس).
هنا يحق للمراقب التساؤل، عما اذا كان هناك فعلاً جهة «ثالثة» تحول دون لقاء كهذا؟ وهل كان الرئيس الفلسطيني دقيقاً في ايراد كلمة «تَمْنع» بكل ما تحمله من ايحاءات، بأنها ليست مجرد جهة عادية، بل هي قادرة على ممارسة الضغط (ان لم نقل التهديد) على رئيس السلطة كي لا يذهب الى اللقاء كهذا؟ كان هو شخصياً قد اكد بحسم.. أنه غير راغب في حدوثه، ما لم تعلن اسرائيل تجميد الاستيطان. (قبل هذا الشرط، كان شرط آخر) هو «الافراج عن اموال الضرائب التي تحتجزها اسرائيل؟
ثمة غموض في هذا المشهد الضبابي، الذي أضفى عليه عباس، نوعاً من الدراماتيكية ايضاً، عندما كشف للدبلوماسيين الاسرائيليين المتقاعدين انه نقل رسالة «سِريّة» الى نتنياهو عبر وزير العدل السابق مئير شطريت، عندما «استدعاه» الى رام الله قبل اسبوعين على ما نقلت هآارتس في خبرها «الملغوم»..
في السطر الاخير.. يمكن التوقف عند ما لفت اليه عباس انظار السفراء الاربعة او «الوطنيين الاسرائيليين» كما وصفوا أنفسهم، عندما قال لهم: ان خطابه امام الامم المتحدة «جاهز» منذ الآن، وهو يُريد ان يقول اقوالاً «حادة للغاية» عن الأزمة الشديدة التي تعيشها المسيرة السلمية، واصفاً خطابه بأنه سيكون جسيماً، لأن الوضع جسيم وانه لا يمكن طمس ذلك. ثم يذهب بعدها الى القول في انعطافة لافتة: انه لا يعتزم ان يُعِلن في خطابه في الامم المتحدة عن حل السلطة او الغاء اتفاق اوسلو.. ومع ذلك «يقول الدبلوماسيون الاسرائيليون المتقاعدون»: فقد اطلق عباس تهديداً «مُبَطّناً» في انه اذا استمر الجمود السياسي، فإنه «لن يَسَعَهُ مواصلة تطبيق الاتفاقات بين الطرفين، نصاً وروحاً.
هل اتضحت الصورة الآن؟
لا يبدو الامر كذلك، سواء في استبطان النية بأنه قد يوقف التنسيق الأمني، أو ربما الذهاب الى اعلان مناطق السلطة المصنفة A, B, C «دولة تحت الاحتلال».
بل يمكن تلخيص التهديد، بأن يكون الخطاب جسيماً، بما قالته العرب ذات يوم وهو: اشبعانهم شتماً... وفازوا بالإبل.
kharroub@jpf.com.