فوضى النشاط التجاري في الحج

في طريقك إلى المسجد الحرام خلال موسم الحج ستكتشف على جنبات الطريق أكشاكاً من الخشب والزنك تم تنفيذها بطريقة عشوائية وغير مرتبة يصل عددها إلى المئات، مستقطعة جزءاً من الطريق أو في الأرض الخلاء الموجودة. هذه المحال تنشأ موقتاً خلال موسم الحج، وتقوم بالإشراف عليها من ناحية الإيجار وتحديد المساحات أمانة العاصمة المقدسة، وتؤجر هذه المحال في مزاد مفتوح ويدخل فيها سماسرة وذوي المنافع لتأجيرها والاستفادة منها، وعليك أن تتولى إدخال الكهرباء ومدة إيجار هذه المحال لا تزيد على 40 يوماً.

 

 

لو أن هذه المحال التجارية الفوضوية والمشوهة للمنظر العام كانت قبل 30 عاماً كنت عذرت وزارة الشؤون البلدية والقروية التي تعمل تحت مظلتها أمانة العاصمة المقدسة، وقتها كانت المناطق المحيطة بالحرم الشريف والطرق المؤدية إليها كلها بيوت صغيرة والمحال التجارية لا تؤدي الغرض ولا تكفي حاجة الحجاج، فكانت هذه المحال التجارية فرصة لأبناء مكة للعمل في موسم الحج.

 

 

أما أن تستمر هذه الأسواق الفوضوية العشوائية بهذه الطريقة إلى الآن والمسجد الحرام تحيطه الآن العديد من مراكز التسوق الكبرى الحديثة، تصل عدد المحال فيها إلى الآلاف، وإيجاراتها السنوية مرتفعة وعالية، إذ وصل إيجار بعض هذه المحال في هذه المراكز إلى 500 و700 ألف ريال. وتعمل 24 ساعة، كما أن هذه المحال تخضع لمراقبة وزارة التجارة والبلدية وصحة البيئة وغيرها من الضوابط والإجراءات من نظافة العمالة ونظاميتها.

 

 

فلماذا تصر أمانة العاصمة المقدسة على إحياء ثقافة التسوق العشوائي والفوضوي ولمصلحة من؟ هل هذا المنظر يخدم الاقتصاد المحلي؟ وما القيمة المضافة من إقامة هذه الأكشاك غير فقط تعبئة خزانة الأمانة من أموال التأجير، ولا تضيف شيئاً لتطور الاقتصاد حول المنطقة المحيطة، وتضر بأصحاب المحال التجارية وتتسبب في إلحاق الضرر، وتسهم في خلق بيئة مشوهة للنظر، كما أنها تسهم في نقل صورة غير حضارية عن النشاط التجاري.

 

 

للأسف الشديد معظم السلع الاستهلاكية والمنتجات التي تباع رديئة وبضائع مستودعات وتباع بأسعار خارج الرقابة، وإذا أراد المستهلك أن يمارس حقوقه من حيث الاستبدال أو التغيير أو حتى إعادة أمواله لا يستطيع، لأن هذه المحال يديرها عمالة غير نظامية، ولأن السلع متشابهة من محل إلى آخر، ولعدم استخدام نظام الفوترة، يمتنع أصحاب المحال من إعادتها أو تغييرها بحجة أنه لم يشتر من محله.

 

 

لا ألوم أمانة العاصمة المقدسة فمعظم مشاريعها في الحج لا ترتقي إلى مستوى جودة الخدمة، إنما ألوم وزارة التجارة التي توافق على مثل هذه الأسواق، فالحاج الذي يأتي للمرة الأولى إلى هذه البلاد لأداء الفريضة لن يصدق أن هذه الأكشاك العشوائية موقتة لفترة الحج وسوق تنتهي بعد أسبوعين، إنما سيظن أن هذه هي طريقة البيع والشراء وعرض السلع التي يعيشها أهالي مكة، ويدخل فيها كل من هب دب ليس من أجل البيع والشراء، بل يدخل فيها من يريد أن يتكسب بطريقة فوضوية يهمه أن يجني المزيد من المال، وليس بالضرورة أن يلتزم بمعايير البيع، ويساعد في فوضى الأسعار مساهمة وزارة التجارة في السماح برفع الأسعار خلال موسم الحج. بالله عليكم أية نظرية هذه التي تمارسها وزارة التجارة حينما تطلب من الناس زيادة الأسعار على الخبز والماء وبعض السلع الأخرى، ووسائل المواصلات والطرق الآن أكثر راحة عما مضى من سنين، إذ كانت المواصلات صعبة والمخابز والمحال التجارية بعيدة، ربما يكون في الماضي مناسباً زيادة الأسعار.

 

 

هذه الفوضى الاقتصادية في مكة المكرمة والمدينة المنورة، أبداً لا يمكن أن يتم السكوت عنها وأن نوافق على استمرارها بهذه الحال، لأنها تشوه صورة السعودية الحضارية، كما أنها تسهم في مضاعفة أسعار الخدمات والسلع، فضلاً عن السمعة السيئة التي تتركها من جراء هذا العمل، ولا أعرف كيف لم تتدخل جهات مثل إمارة منطقة مكة المكرمة لوقف هذه الأكشاك ومنعها، ولعلي أتساءل ما دور مجلس الشورى؟ كيف لم يناقش ضمن جدول أعماله رفع مستوى تقديم الخدمة للحجاج، وأيضاً تحسين صورة السعودية؟ ولعلي أطلب من مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية أن يقترح إنشاء مجلس أعلى لخدمات الحج، مهمته ليست فقط مؤسسات الطوافة ولا أداء المؤسسات الحكومية الأخرى، أظن أننا وصلنا إلى مرحلة نحول خدمة الحجاج والركن الخامس إلى صناعة خدمية عالية الجودة تشمل كل مناحي حاجات الحجاج، من مواصلات وسكن وتنقلات وخيام وتسوق، حتى العاملين القائمين على خدمة الحجاج، يجب أن نعترف أن الحج فضلاً عن أنه ركن من أركان الإسلام، إلا أنه يعتمد على مستوى الخدمات التي تقدم لهم وجودتها، وهذه تقدم وفق معايير اقتصادية وتصنف بطريقة علمية، تشترك فيها جهات أخرى، من غير المعقول الغرف الفندقية في موسم الحج تتحول بالسرير أو الشخص الواحد، وليس كما هو معمول عالمياً حينما يستأجر العملاء الغرف تحصل على غرفة ومرافقها، بينما لدينا تؤجر بالسرير، وهذا يتنافى مع عرف الخدمات الفندقية.

 

 

موسم الحج فرصة لإبراز الصورة الحضارية للسعودية أمام جنسيات مختلفة، سواء الصورة الاجتماعية أم الاقتصادية، كما أنها فرصة لتحسين الخدمات، ولا يمكن تصرف جهة حكومية وعدم اهتمامها بالصورة الجميلة للبلد، أن تشوه مكانة السعودية أو تترك صورة سلبية نتيجة إهمالها، وكلما كانت الخدمة عالية الجودة حصدنا المزيد من الثناء. يهمنا الآن أن تتوقف هذه الصور السلبية لأنشطتنا الاقتصادية في موسم الحج، استمرارها وبقاؤها والإصرار عليها، يجعلنا نتساءل لمصلحة من؟