عندما نجعل المواطنة الإطار العريض

ما جرى في بلادي الأسبوع الماضي، يبعث على الحزن والغضب في الآن نفسه. مقطع من برنامج لقناة "رؤيا" وتغريدة نائب، افتقرا للحكمة والذوق؛ وبعض الردود عليهما، وليس كلها، أظهر نفسية إقصائية بغيضة كان البعض يعتقد أنها دخيلة على مجتمعنا الأردني، ثم لنفاجأ أنه كلما واجهنا مثل هذه المواقف، يتنطح البعض ليلبسها ثوباً طائفياً مقيتاً، ويجد العديد ممن يساندونه في هذا الطرح.
نستطيع أن نعزو مقطع "رؤيا" لأسباب عديدة نتفق عليها ونختلف. ونستطيع أن نناقش ملاءمة المقطع من عدمه. لكن ليس لأي من تلك الأسباب علاقة بدين أو مذهب صاحب القناة. كما نستطيع أن نناقش سماجة نكتة سعادة النائب، لكن قلة حكمته لا علاقة لها بدينه أو مذهبه أيضا. ولو قرنا كل فعل بدين ومذهب فاعله، لما نجا أحد منا من فعلة اقترفها في وقت ما.
حزين أنا مما يجري؛ حزين من اختزال الوطن والمواطنة بهذه الطريقة الإقصائية؛ حزين من رغبة البعض في الانقضاض على البعض الآخر عند أول زلة، وبانتقائية فاضحة. حزين أنا أيضاً حين أرى الأردني المسيحي مضطراً للتذكير بانتمائه لوطنه وأمته وثقافته ومساهماته فيها، كلما ارتكب شخص من طائفته هفوة أو ذنباً لا علاقة له بالطائفة، تماما كما لا يجب أن يتوقع أحد أن يقوم بذلك المواطن المسلم إن ارتكب أحد من طائفته ذنباً أيضاً. صاحب البيت، أياً كانت طائفته، لا يطلب الإذن ليسكن في بيته، ألسنا جميعاً، ومن كل الطوائف، أصحاب الدار نفسها؟ "وكيف أكره من في الجفن سكناه؟".
لطالما حذرت أقلام وتربويون من ثقافة إقصائية موجودة في مناهجنا؛ ثقافة تعظم الذات وتقزم الآخر، ثقافة تعاني من غياب القيم الإيجابية التي تحترم التنوع الديني والثقافي في المجتمع وتحتفي به، بالقدر الذي تعاني من حضور القيم الإقصائية التي تعترف فقط بحقيقة واحدة ومنظومة قيمية لا مجال فيها للآخر. كم نحن بحاجة إلى ثقافة لا تعرّف المواطنة على أساس العلاقة بين الدولة والناس فقط، وإنما أيضاً بعلاقة اللحمة بين الناس أنفسهم رغم تنوعهم. فما نزال نكابر، ونرفض الاعتراف أن بعضَ، إن لم أقل معظم المسؤولية يقع علينا؛ على الدولة التي لم تبدأ بعد جهداً جدياً لإعادة النظر في المناهج جذرياً، وعلى مجتمع ظل ساكتاً لعقود وهو يشهد ثقافة إقصائية تعلم في المدارس وتغلف تغليفاً غير موفق بما نسميه زيفاً التربية الوطنية!
لا غرابة، إذن، إن ربط البعض الأخطاء والزلات، وحتى سماجة النكت، بالطائفية والنية المبيتة لتخريب المجتمع والنيل من قيمه، بل حتى بالمؤامرات الخارجية. فإن سمحنا أن تكون مدخلات أنظمتنا التربوية كذلك، فلا يحق لنا أن ندّعي الدهشة من مخرجاتها، أو أن ننعت من يعلي هويته الفرعية على تلك الوطنية بالشاذ أو الأبله أو المتعصب. كلنا مذنبون حين نسمح لعصبياتنا الفرعية أن تُدرس وتعلو على عصبيتنا للوطن، الوطن، الوطن.
حين تجمعنا المواطنة كإطار عريض، وحين يتم تربية النشء على أن ما يجمعهم هو مواطنة متساوية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، بغض النظر عن تنوع الناس الديني والثقافي والسياسي والجندري، يصبح التعامل مع أي هفوة أو زلة من أحد محصوراً بالفعل وضمن حدود القانون، من دون إعطائه أبعاداً مريضة. وحين تصبح المواطنة المتساوية الحاضنة للتنوع هي الإطار العريض، تنتفي الحاجة إلى التذكير بأن العرب المسيحيين حين يقدمون للعروبة واللغة والعيش المشترك، فإنهم يقدمون لأنفسهم وحضارتهم ولغتهم، تماماً كما يقدم إخوانهم وأخواتهم المسلمون. حين تكون المسطرة هي المواطنة المتساوية، ويصبح القانون هو الفيصل إزاء المواطنين كافة، نكون قد خطونا خطوة متقدمة نحو المجتمع التنويري التعددي المتآخي، وبالتالي المزدهر.
دعونا نسمو إلى المواطنة، بدلاً من أن ننحدر إلى الطائفية.