ذكريات

ماالذي يفعله الرجل في القرية الأردنية حين يأتي من العمل ؟ ... أبي كان يتناول الغداء , بعد ذلك يتناول (حبتين ريفانين) ... ثم ينام , وحالما يصحو من النوم .. أكون قد جهزت (البربيش ) له , كان شغوفا برش كل شيء بالماء في حديقة منزلنا , يبدأ بسقاية الشجر ثم النعنع , ثم يقوم برش السيارة , بعد ذلك يعرج على الحيطان .... ثم يرش (عامود الكهرباء) ... وأنا كنت أعرف ما يريده دون أن يطلب فمهماتي واضحة , تتلخص في( تسليك) البربيش , وتقوية الماء ... وأحيانا التنبيه إلى زوايا لم يقم برشها .
بعد أن ينهي , يأتي (إبريق الشاي) ... ويجلس مزهوا بما فعل , فالماء يمنع الغبار والحقيقة , تكمن في أنه حول حديقة المنزل , لمكان مليء بالوحل ...ثم يغرق في الصمت والتأمل , ويشعل سيجارة (الريم) ...لا يقطع هذا الصمت سوى , صوت شفط الشاي عبر فمه , وأحيانا أنفاس السيجارة ...التي تساعده على الغوص في التفكير ....
وأنا أجلس أتأمل الدخان المنبعث من فمه , فلا ريح تعبث به ..ولا نسمة سكرى ترده من حيث أتى , كل ما في الأمر أنه يتصاعد ...هو الشيء الوحيد الذي يشبه الكلام فحين يخرج من الفم لا تستطيع رده ....
وأنا تمردا على الصمت , أقوم بغسل ( الحفاية) التي كان ينتعلها , والتي غطيت بالطين ...وبعد ذلك أمسك كتاب اللغة العربية لإيهامه بأني مجد في الدراسة .. وهو يثني علي , ثم يسألني عن الإمتحانات , وإجاباتي غالبا .. تكون بأني الأول على الصف , وأن أستاذ الرياضيات وصفني بالعبقري .. وكل ذلك يقع في إطار الكذب وأظنه كان يعرف أني غبي جدا في الرياضيات ....
كلما عدت لمنزلنا في الكرك ... تذكرت ( حوش الدار) وتذكرت أبي الذي طواه الموت ... تذكرت أيضا تفاصيلنا في ساعات العصر , والسيارة (اللادا) .. وشجرة اللوز , والحديقة التي غطيت بالوحل .. والسيجارة , والشاي وصوت ارتشافه للشاي تذكرت ... حتى اصبعه حين ينعطف على سيجارة الريم , والنظارة السميكة والشيبات .. اللواتي برزن على المفرق ...
يا صاحبي كيف لا نحب وطنا , ما زال يجعلنا كل مساء نسترد فيه الذكريات ..