قراءة إسـرائيلية للمحرقة الفلسطينية مازال ثمة ضمائر حية
يعتقد اتباع الحاخام كوك ان الكارثة التي تعرض لها اليهود في اوروبا على ايدي النازيين قبل وخلال الحرب العالمية الثانية عبر المذابح والمحرقة وغيرها من وسائل البطش والتمييز العنصري البغيض ، كانت المقدمة الضرورية للبعث ، بعث الامة الإسرائيلية من الرماد والزوال وعدم الحضور ، ومقدمة الكارثة هذه شكلت الارضية المادية والمعنوية لنجاح قيام المشروع الصهيوني الإسرائيلي الاجنبي على ارض فلسطين ، وإذا كانت الكارثة الواحدة التي واجهت اليهود في اوروبا سببت كل هذا النجاح والتفوق للمشروع الإستعماري التوسعي الصهيوني الإسرائيلي ، فكم من الكوارث يحتاجها الشعب العربي الفلسطيني ، حتى يزيل اثار الكوارث التي سببتها له الصهيونية ومشروعها الإستعماري على ارض بلاده ، وكم من الكوارث التي يحتاج فيها ومن خلالها للتضحية ، ودفع الثمن حتى يستعيد حقوقه المنهوبة : حقه في المساواة ، وحقه في الإستقلال ، وحقه في العودة ؟؟ .
تعرض الفلسطينييون للنكبة عام 1948 وهي كارثة متعددة الاشكال والعناوين الماساوية التي واجهتهم ، إذ تعرضوا للتصفية الجسدية والعرقية في مذابح فاقعة متكررة في دير ياسين واللد والطنطورة والدوايمة ومذابح غير محصية بالعشرات في المدن والقرى التي تم اجتياحها من الفصائل الصهيونية المتطرفة بقصد طرد الناس ودفعهم نحو الهروب من الموت المحقق على ايدي عصابات الاجرام اليهودية ، وتم إحتلال وطنهم وإحلال اجانب في بيوتهم .
وتعرض الفلسطينييون إلى النكسة عام 1967 وهي كارثة إستكمال احتلال وطنهم بالكامل وطرد حوالي مليون إنسان من الضفة والقدس والقطاع وترحيل سكان مخيمات اللاجئين إلى الاردن ، وكانت قمة الكوارث ان شعب فلسطين تحول من شعب له وطن وهوية وحلم ورؤية إلى اكثرية من اللاجئين الهائمين بلا هوية وبلا ظهر يحميهم وبلا مستقبل منظور يستقبلهم ، ولكنهم مثل اليهود سعوا وحاولوا النهوض على اثر النكبة الكارثة الاولى بسد حاجات الاطفال للعيش وبالتركيز على عاملي العمل والتعليم حتى ابدعوا ، مهنياً واكاديمياً ، فجاءت النكسة الكارثة الثانية فعززت من حضورهم من شعب لاجيء إلى شعب يتطلع إلى الحياة الكريمة المقرونة بالكرامة مثله مثل باقي شعوب الارض المستقلة والمتحررة ولكن على ارض وطنه وليس خارج فلسطين ، فإنطلقت نواة الثورة وإتسعت بعد معركة الكرامة في اذار 1968 ، ولكن الكوارث توالت عليه بفعل تفوق الصهيونية ومشروعها الإستعماري الذي يمتلك اربع مقومات مادية اولها ان لديه ترسانه عسكرية ونووية متمكنة ، وثانيها إقتصاد قوي منتج ، وثالثها دعم اقوى دولة في العالم له سياسياً وامنياً وعسكرياً واقتصادياً ودبلوماسياً ، ورابعاً إسناد وشراكة الطوائف اليهودية المتنفذة في العالم لصالحه .
الكارثة بل الكوارث ، والمحرقة بل المحارق التي يتعرض لها الفلسطينيون غدت عنواناً لمأساته وعنواناً للشجب ليس فقط من قبل اشقاء او اصدقاء ، بل وحتى من اناس يملكون ضميراً حياً من اليهود الإسرائيليين .
كتبت ام إسرائيلية في هارتس يوم 9/9/2015 ، مقالاً حمل عنوان " مستشفى شيبا ... طفل يبكي من الالم " عن ماساة عائلة الدوابشة التي تعرضت للحرق على ايدي المستوطنين الاجانب من اليهود الإسرائيليين ، حينما كانت في المستشفى لرعاية والدتها الكبيرة في السن ويقيم إلى جانبها سرير الولد المتبقي من عائلة الدوابشة بعد ان إستشهد شقيقه الرضيع علي ووالده سعد واخيراً والدته رهام ، كتبت عماليا روزنيلوم تقول:
" كنت بجانب سرير والدتي حينما احضروا طفلاً من غرفة الانعاش ، وهو يبكي ويصرخ من الالم والخوف ، ولم يتوقف بكاء الطفل ، وسألت نفسي اين والد الطفل ؟ واي ام هذه التي تترك ابنها وحده في هذه الحالة ؟ وقلت لوالدتي واقترحت عليها ان اقترب من الطفل من اجل ملاطفته وحمله ، واقتربت من سريره ، ولكن الممرضة رفعت راسها من خلف طاولة الإستعلامات وسدت طريقي بجسمها وقالت : لا ، لا ، لا ، محظور لمسه باي شكل ، بعد قليل ستاتي جدته ، وسمحت لنفسي بالإقتراب من الطفل وإلقاء نظرة ، ولاحظت انه من جيل اربع سنوات ، ورايت راسه فقط الذي كان مضمداً بشكل كامل ، ومن بين الضمادات اطلت فقط عيناه ، واثار الحروق ، واعتقدت بخوف ان هذا بسبب حادث منزلي ، فقلت يا الله إحم اولادي !! .
عندما إقتربت الممرضة من الطفل هدا قليلاً بعد ان قالت له بالعبرية والعربية ان جدته ستصل قريباً ، فتوقف عن البكاء بالتدريج ، وتمنيت ان تاتي جدته بسرعة .
بعد وقت قصير خرجت امي من غرفة الانعاش ، وطول اليوم لم اكف عن التفكير بهذا الطفل التعيس ، لان التفكير المشابه ان ابنك قد يبكي ويتالم دون ان يتوجه إليه احد هو كابوس لكل اب وام ، وفي اليوم وانا في الطريق إلى العمل سمعت في الاخبار عن موت رهام دوابشة التي تم حرقها في العملية الارهابية في قرية دوما في نهاية حزيران ، ومستشفى شيبا اعلن ان كل الجهود مركزة الان على حماية احمد ابن الاربع سنوات من الموت ، بعد رحيل شقيقه ووالده ووالدته " . انتهى ما كتبته الام الإسرائيلية عماليا روزنبلوم .
ولكن قصة عائلة الدوابشة ، ليست الاولى فقد سبقها حرق محمد ابو خضير ، ولن تكون الاخيرة في مسيرة الكوارث التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني ، ولكن علينا التدقيق في الوصف الانساني الذي كتبته الام الاسرائيلية ووصفها لحرق العائلة الفلسطينية انها تمت في العملية الارهابية على حد وصفها هي ، مما يدلل على حجم التاثير الذي تتركه معاناة الفلسطينيين وعذاباتهم على ايدي قادة وكوادر ومؤسسات المشروع الإستعماري التوسعي الإرهابي والعنصري الإسرائيلي .
الشعب العربي الفلسطيني ، على الطريق الطويل المتعدد المسارب طريق التضحية وسقوط الضحايا ، وطريق إستعادة حقوقه الكاملة غير المنقوصة ، وطريق دحر عدوه الإستعماري وهزيمته ، ومثلما نال النازيون العقوبة ، هكذا سيدفع الصهاينة ثمن جرائمهم ، بحق الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمسيحيين .
h.faraneh@yahoo.com